التصور المبدئي لدي أنه لو أن عبد الناصر ما زال يحكم أنني
سأكون في السجن، ولذلك فإنني بمنتهى البساطة لا يمكن قط أن أتسامح مع أسلوب
حكم يضعني في السجن، ذلك يتناقض مع المبدأ الشعبي البسيط «يا مفرقين
الشموع. إيه؟ أنا ما أخدتش». تجاوز ذلك المبدأ البسيط والسكوت عن الظلم
الواقع عليك ليس من قبيل الإيثار والتضحية من أجل الآخرين، ذلك يجب أن يكون
بمزاجك، لكن لو غصبًا عنك فسكوتك إما خجل مرضي يجب عليك أن تتجاوزه أو
تنظير مرضي عن التضحية بالحرية من أجل بعض العدالة واستكمال التحرر من
الاستعمار، وذلك التنظير المرضي يتجاهل النقطة البسيطة التي يجب أن يبدأ
منها الاجتماع، وهي أن تبحث عن رضاك الشخصي ورضا إخوانك في الإنسانية جنبًا
إلى جنب.
ولا تفسير لدي للمرض الذي يتجاهل ذلك سوى أن البعض يفكر في
السياسة باعتباره «مهديًا منتظرًا» يضع خطة لصلاح الكون ويمكنه أن يتهاون
إن طبّق أحدهم بعض عناصر هذه الخطة، ولذلك ساعتها يمكن أن أفهم إيثاره
وتضحيته عندما يعتقد أن صلاح الكون يمكن أن يتضمن أو يتجاهل سجنه هو بدلاً
من أخيه. ومن يفكر بهذه الطريقة هو شخص – في النهاية - لديه مبررات ما
للاستبداد يمكنه أن يتسامح معها.
هؤلاء الذين مازالوا يبررون ذلك ويتسامحون
مع «المشروع» و«الزعيم» المفضل عندهم ولو طغى وتجبر على هذا أو ذاك أو أرسى
أسس الدولة الشمولية السلطوية التي مازلنا نعاني من تفكيكها إلى الآن،
أرجو منهم أن يضعوا مكان «المشروع» كلمة «المشروع
الإسلامي» ومكان «الزعيم» كلمة «مرسي» وعليهم أن يتسامحوا مع كل ما يرونه
من انتهاك للحريات وحفاظ على أركان الدولة السلطوية، لأنها أدوات «لقطة» لا
يمكن أن يتنازل مشروع سلطوي جديد عنها بعد أن وجدها «مقشرة» وورثها عن
مشروع سلطوي سابق.
ولذلك، فإنني أتفهم جيدًا كيف يريد مرسي أن يكمل مسيرة عبد
الناصر. صحيح أن مرسي كعادته في الهلفطة يستخرج الكلام الفارغ من جعبة
الانتهازية، ويبيع لكل مشترٍ ما يحبه من كلام، لكنّ أيضًا النقابيين والمهتمين بعدالة اجتماعية حقيقية
يعرفون أن مرسي وإخوانه ودستورهم – بعيدًا عن الهلفطة - لم يسعوا للتقدم
على طريق الحريات النقابية والحريات العامة بشكل عام، ولكنهم يودون
استكمال ما بدأه عبد الناصر فعلاً من دولة سلطوية، وما بدأه من تحويل
العدالة الاجتماعية إلى منحة وهبة من الحاكم يفرح بها العمال في
عيدهم. و«العدالة الاجتماعية» بهذا المفهوم هي أسوأ من أن تعطي أحدهم سمكة
ولا تعلمه الصيد، إنها بهذا الشكل في هذا الوقت العصيب من حالتنا
الاقتصادية يعني أن تعده بالسمكة وتعلمه الانتظار الطويل.
الذين انتظروا في سجون ناصر أن ينتهي الاستبداد والشمولية
وإرساء أركان دولة سلطوية وأن يتجاوز مشروع التحرر الوطني مشكلاته مع
الوقت، نسوا أنه لا يمكن لمشروع أن يتجاوز مشكلاته دون حريات. الحريات هي
الهواء الذي تتنفسه المجتمعات وإلا سقطت في العفن هي وحكوماتها، ولذلك
انتظر هؤلاء طويلًا في سجون ناصر ثم سجون السادات ثم سجون مبارك وبعضهم
مهدد بسجون مرسي.
ولذلك، فإن أكثر ما أكرهه في بعض المظاهرات المعادية للإخوان هو الهتاف الرديء «آه لو عبد الناصر عايش .. كان لبسكوا طرح وغوايش» ولا ينافسه في الرداءة إلا وعيد البعض بإعادة الإخوان للسجون.
من المؤسف دائمًا أن يكون في صفوف مقاومي الاستبداد بعض من
محبي أشكال أخرى من الاستبداد، وقبل هذا النوع من محبي ناصر كان وسطنا في
الميدان محبو الاستبداد باسم الإسلام، لكنهم ولله الحمد لم يصبروا كثيرًا
على الهتاف بالحرية والكرامة، هكذا مطلقًا، وانفصلوا بمشروعهم ليهتفوا
لقيودهم الحبيبة ولاستعلائهم الطائفي.
ربما أفلت عبد الناصر تاريخيًا من ثورة اتصالات كانت ستجعله
في مرمى حريتنا التي كان من الصعب عليه أن يسجنها إن لم تعجبه دون أن يتعرض
لمسخرة أكبر، ولكن على السيد مرسي وإخوانه ومحبي نوعهم الخاص من الاستبداد
أن يعرفوا أن هذه اللحظة لا تتوفر فيها خدمة «الاستبداد الوقور»، وأنه لو
كان عبد الناصر نفسه عايش معنا هنا والآن لما وجد فرصة في قصائد درويش
وصلاح جاهين وأغاني حليم. وربما وجد فرصة واحدة أو فرصتين قبل أن ينقلب
الأمر إلى مسخرة.
وعلى جانب آخر، لو كان عبد الناصر هنا والآن ورأى وسمع مرسي
وإخوانه وهم يحاولون استعمال أدوات دولته السلطوية التي رمى أساساتها
واستخدمها في شموخ وإباء وسط قصائد فخيمة من شعراء كبار وأغان من مطربين
عظام، لو كان عبد الناصر هنا والآن ورأي مصير مشروعه السلطوي في يد أعدائه
بهذا الشكل وهذا المنظر لقال في حسرة ديكتاتور من أيام الزمن
الجميل: الديكتاتورية لمّت!
No comments:
Post a Comment