حاول مراسل إحدى الفضائيات
قبل أيام أن يناقش باسم عودة، وزير التموين، بشأن قيام جماعة الإخوان
المسلمين وحزبها، وإليهما ينتمي الوزير، بالاستفادة من إنتاج الخبز بتوصيله
إلى المنازل بسيارات تحمل دعاية للحزب والجماعة، وبعد توقيعهم على بطاقات
اشتراك في مشروع التوصيل عليها شعارات الحزب والجماعة، وكان رد فعل الوزير
كما في الفيديو
أنه وصف كلام المراسل بأنه شائعات وواقع غير موجود، ورفض مناقشة الأمر،
لأنه لم تصله رسميًّا أي شكوى عن حدوث ذلك، وقال إنه مسؤول فقط عن موظفي
الوزارة وليس عن تصرفات الأشخاص والأحزاب، وعندما أصر المراسل أن يحصل منه
على تعليق وطالبه بالحديث بشفافية أكثر انسحب الوزير وتركه.
باسم عودة أصبح من أهم أيقونات
جدل الاستقطاب، أخباره وصوره هي الأكثر تداولاً على صفحات الإخوان ومؤيديهم
باعتباره الوزير الشاب الثوري الإسلامي ابن الإخوان وحزب الحرية والعدالة
والوزير الأنشط في وزارة قنديل والأكثر تواصلاً مع الناس في مواقع الإنتاج
والتوزيع والخدمات، وفي مقابل هذا الاستثمار السياسي والإعلامي الكبير
للوزير وصورته ونشاطه هناك في المقابل رد فعل «سياسي» تجاه أداء الوزير من
القوى المعارضة للإخوان ووسائل الإعلام المقربة لها، ورد الفعل هذا ليس كله
مما يبدو لي نزيهًا ولكنه بالتأكيد في نفس مستوى نزاهة الفرح المنصوب في
الناحية المقابلة.
لا يمكن تجاهل حمولة الاستقطاب
السياسي في التعامل مع الوزير وأدائه، ولكن انفجار الاستقطاب السياسي هو
ناتج طبيعي لـ«غشومية» السلطة بعد تضييق مجال «السياسة» كساحة مفتوحة
دائمًا للجدل حول مصالح الناس وتنافس الرؤى والفلسفات المختلفة بشأن ذلك
بما يقارب مصلحة المجموع دون تهديد حقوق وحرية أي فرد أو جماعة، وبما يضمن
استمرار ساحة السياسة كمجال لتصحيح المسار وتوكيد الحقوق.
الغشم والتضييق والانفجار حدثت ومازالت تحدث منذ الإعلان الدستوري، ثم
الدستور، مرورًا بقرارات القيادي الإخواني محمد مرسي، التي فشلت في أن تحظى
بتوافق ورضا حفنة مستشارين هربوا من قصره.
ويبدو لي أن رد فعل الوزير على
المراسل ورفضه التعليق على نشاط تيار ينتمي إليه ويتقاطع مع عمل وزارته هو
جزء من تضييق مجال السياسة بهذا المعنى، حتى مجرد النقاش مع الوزير وصل
لنهاية مسدودة.
كما أن الوزير يمارس تضييق مجال
السياسة عن طريق تجاهل تقاطع المجال السياسي مع عمل وزارته، ويريد من
الناس والإعلام أن يتعاملوا مع شؤون وزارته باعتبارها شؤونًا فنية
وبيروقراطية بحتة، «ما وصلنيش شكاوى»، أو باعتبار منصب سياسي كمنصب الوزير
هو منصب تنفيذي منفصل الصلة عن كل ما يحدث في عالم السياسة.
الوزارة منصب سياسي، والوزير
مهمته الأساسية هو وباقي أفراد تشكيل الوزارة التي ينتمي إليها هي الإدارة
السياسية لملفات الحكم والشؤون العامة، ووصول مسؤول حزبي إلى منصب الوزير
- لكون الرئيس من نفس الحزب أو لحصول الحزب على حصة ما في البرلمان -
يعني أن وصوله لمنصبه كان بفضل رؤية وبرنامج وأداء حزبه وليس فقط لقدراته
ومواهبه الشخصية، ومسؤوليته هذه لا تنفصل عن أداء الوزارة كلها وأداء الحزب
بشكل عام.
ولكن القفز من موقع السياسي
والحزبي إلى موقع «رئيس لكل المصريين» و«وزير لكل المصريين» هو أحد
تكتيكات إغلاق مجال السياسة ومحاولة إيهام الناس بأن الشخص قد وصل إلى مكان
لا يجوز فيه الخلاف العميق معه، إنه الآن يحاول أن يبدو وكأنه قد خرج من
مجال «الجدل السياسي» إلى مجال العمل والإنجاز، كأن هناك طريقة واحدة
لتحقيق مصالح الناس وأن الرئيس أو الوزير أو المسؤول السياسي هو راعٍ حسن
النية وصالح الأخلاق ويحب الوطن وملتزم بالدين، إذن فما الذي يمنعه من أن
يحقق مصالح الرعية؟ وما الذي يجعلك تعارضه إلا أنك تريد «الخراب» أو تريد
محاربة «المشروع الإسلامي» كيدًا وحسدًا؟
الأسئلة السابقة هي مجرد تهريج،
وهي اختزال وابتذال لمجال السياسة. ففي ساحة السياسة هناك مصالح مختلفة
لفئات مختلفة وهناك موارد محدودة وهناك فلسفات متعددة ومتناقضة لإدارة عالم
الاجتماع والاقتصاد، تبحث عن حلول مختلفة لتعارض المصالح ولإدارة الموارد.
يمكنك أن تجعل أولى أولوياتك
قانون الحدين الأدنى والأقصى للأجور لكل الناس أو قانونًا يتيح قروضًا
مفتوحة بلا سقف لضباط الجيش، يمكنك أن تزيد من ميزانية التعليم والصحة من
أجل إصلاحهما أو من ميزانية الشرطة لكي تساعدها على الاستمرار دون إصلاح
وبنفس الطرق والأسلحة فترة أطول.
السلطة التي توهم الناس بأنها
لا تشتغل بالسياسة هي سلطة «تستعبط» بالضرورة أو أنها سلطة بلا بوصلة
سياسية، ربما لأنها سلطة تشكلها جماعة دعوية ليس لديها فلسفة سياسية أو
اقتصادية إلا تمكين أبنائها الصالحين الأخيار المتفانين المؤيدين من الله.
وباستثناء «التأييد من الله»،
فقد يغلب على ظني أنهم فعلاً أخيار حسنو النية ومتفانون ويحسبون أنهم
يحسنون صنعًا، لكن ذلك لا يمنع أن يقعوا في الفساد. كما أنوي أن أتهمهم في
الجزء الثاني من هذا المقال.
نشر في المصري اليوم بتاريخ 15 مايو 2013
نشر في المصري اليوم بتاريخ 15 مايو 2013
No comments:
Post a Comment