|
أقباط مصر إحدى الفصائل المهمة التي تشكل نسيح المجتمع المصري |
ليست المرة الأولى التي يبدأ فيها الجدل في مصر حول حكم الإسلام في تهنئة المسيحيين بأعيادهم الدينية، وإن كان الرئيس المنتمي لجماعة الإخوان المسلمين أو مسئولين في الدولة محسوبين عليها أو مقربين منها سيذهبون إلى الكنيسة مهنئين. لكن يمكن لتصريح “ما” أن يلخص انطباعات الكثيرين تجاه مثل هذه اللحظات. التصريح منسوب لأحد مستشاري الرئيس -الذي هرب كمعظم أقرانه من القصر الرئاسي المحاصر بأزماته إلى سعة الدنيا– عندما ردَّ معلقًا على سؤال حول إمكانية زيارة الرئيس مرسي للكنيسة مهنئًا بأحد الأعياد الدينية: “يروح الكنيسة ! يا نهار أسود !”.
خلفية ذلك النهار الأسود ليست قصيرة العمر تتعلق بالموقف الرسمي من العنف الطائفي المتكرر، أو بانسحاب ممثلي الكنيسة من لجنة كتابة الدستور وتجاهل اللجنة لذلك واستكمالهم لكتابة الدستور، أو تحويل التيارات الإسلامية لمسار الدعاية للتصويت بالموافقة عليه لصراع بين المشروع الإسلامي وأعدائه، كما تم تحويل كل المفارق الانتخابية منذ انطلاق الثورة.
ولكن الخلفية السوداء التي تظهر وراء التعليق العفوي المنقول عن المستشار يشكلها ما هو أبعد من المواقف الرسمية المتخشبة، لكنه ينضح من تصريحات منفلتة هناك أو من أداء وسائل الإعلام المساندة للسلطويين الإسلاميين في مصر، أو من التعبيرات الكثيفة لأنصارهم في شبكات التواصل الاجتماعي.
ما يمكن أن يلخص اتجاه هذه التعبيرات جميعًا هو ما حدث مع صورة التقطتها وكالة الأنباء الفرنسية لحافلة تحترق وأمامها شاب ملثم يرفع علامة النصر. الصورة كانت من “اشتباكات المقطم”، عندما توجهت مظاهرة لمبنى مكتب إرشاد جماعة الإخوان المسلمين في المقطم، وحشد الإخوان شبابهم في مواجهة المظاهرة، وبعضهم أتى من خارج القاهرة بحافلات، كان مصير بعضها الحرق بعد اشتباكات عنيفة ومطاردات بين الطرفين.
ولكن الصورة انتشرت بكثافة على صفحات ومواقع تابعة لأنصار الإخوان والسلطويين الإسلاميين الذين هبوا لنصرتهم رغم الخلافات الحالية. وكان سبب الانتشار أن واحدًا ثاقب النظر اكتشف صليبًا في يد المتظاهر الملثم. الصورة انتشرت بعد تعديل بسيط يرسم دائرة حول الصليب، ويقوم بتكبيره معلنًا الاكتشاف الهام الذي لم يكن جديدًا بالمرة، ولكنه الافتراض القديم الجديد الذي يحب السلطويون الإسلاميون إعادة اكتشافه: المشروع الإسلامي لا يقاومه –في الحقيقة- إلا غير المسلمين، والاستقطاب السياسي ليس وراءه إلا معركة دينية بين الإسلام والكفر.
ذلك الاكتشاف المستعاد الذي تعبر عنه الصورة ببلاغة هو نفسه الذي ينفلت من البلتاجي أثناء حماسته وهو يخطب في جموع احتشدت أمام مسجد قريب من القصر الرئاسي، وقت محاصرة حشود غاضبة له بعد الإعلان الدستوري الذي منح فيه الرئيس نفسه سلطات استثنائية مؤقتة. أعلن البلتاجي للحشود من مناصري التيارات الإسلامية من القاهرة والمحافظات أن تقارير لديه تقول أن 60% من الذين يحاصرون القصر مسيحيون.
هو نفسه أيضًا الكشف المستعاد في الإعلام المساند للسلطويين الإسلاميين الذي يحب أن يكشف مرارًا وبإلحاح أن الكنيسة تدعم
|
صورة تدوالتها مواقع التواصل الاجتماعي لشاب قبطي شارك في الاحتجاجات ضد الاخوان |
تحالفات سياسية منافسة للتيار الإسلامي أو المرشح الرئاسي المنافس لـ”المرشح الإسلامي”. أو أنها تقود معارضة الدستور الذي كتبته التيارات الإسلامية. أو تنشر تسريبات وهراءات تقول أن التجمعات الكشفية للكنيسة هي التي تقف وراء مجموعات “البلاك بلوك” الأناركية.
لا يرى السلطوي الطائفي الخشبة في عينه، ولكنه يؤسس تيارات سياسية طائفية هي أذرع سياسية لتجمعات اسمها “الإخوان المسلمون” و”الدعوة السلفية” و”الجماعة الإسلامية” ثم يلوم على المختلفين دينيًّا والأقليات المذعورة من مشروعهم الطائفي أنهم في “الصف الآخر”. السلطوي الإسلامي في الحقيقة لا يحبهم أن يكونوا في صف آخر سياسي، في استقطاب عنوانه حقوق وحريات للناس أفرادًا وجماعات وضمانات لحياة ديمقراطية. ولكنه يحب أن يراهم كطائفة أخرى يجب أن تحسن السلوك أمام الطائفة الغالبة المنتصرة في غزوة الصناديق.
ينسى السلطويون الإسلاميون في هذه اللحظات أذرعهم السياسية، ويندفعون بالقلب الطائفي لمشروعهم وجمهورهم. يختفي “انتصارهم الصندوقراطي” باعتباره انتصارًا لتيار سياسي “مفتوح لكل المصريين” لتصبح معركة عقيدة واستعادة لانتصار المسلمين. وعلى الطوائف المنهزمة ألا تحاول منازعتهم السيادة.
والأهم أن عليها أن تتصرف سياسيًّا كطائفة. فلا يصح أن يتم اكتشاف مسيحي وسط حشود معارضين؛ لأن ذلك سيكون تصعيدًا لإحدى الجولات المرحلية، وفتحًا لباب المعركة الكبرى بين الإسلام وأعدائه، كما يحب السلطويون الإسلاميون أن يعيدوا الاكتشاف كل مرة أو أن يخلقوا ذلك خلقًا. ولا يصح أن تهتف حشود مسيحية غاضبة بسقوط الرئيس ومحمد مرسي في مسيرة جنائزية تخرج من الكاتدرائية في أعقاب عنف طائفي موجه ضد المسيحيين. ساعتها ستتحرك حشود طائفية مقابلة لتعيد المسيحيين إلى أسوار الكاتدرائية، تساعدهم في ذلك قوات الشرطة، التي أعادت المسيحيين الغاضبين إلى داخل أسوار كاتدرائيتهم بنفس الطريقة تحت حكم مبارك في أعقاب تفجير كنيسة القديسين قبل انطلاق الثورة بأسابيع.
أثناء الجدل حول كتابة الدستور كان يحلو لإسلاميين التصريح بأنه من غير اللائق من غير المسلمين أن يناقشوا أي أمور تتعلق بمرجعية الشريعة الإسلامية أو مرجعية الأزهر؛ لأن ذلك يسبب توترًا طائفيًّا. ولكن ما لهم –ولهم الحق في مناقشته- أن الدستور كفل لـ”طوائفهم” حرية إقامة دور عبادة وحرية الاحتكام لشرائعهم في الأحوال الشخصية، ونص على ذلك تفصيلا لأول مرة في تاريخ الدساتير المصرية.
وكأن غير المسلمين ليسوا أفرادًا مواطنين خاضعين للقانون المصري وسائر التشريعات والقرارات التي ستمسها “شريعة” يتحدث عنها الإسلاميون أو يشارك في النقاش وتشكيل تفاصيلها مؤسسة دينية إسلامية. ولكن هذه التصريحات هي أيضًا مثل الحشود الطائفية، ومثل قوات الشرطة التي تعيد المسيحيين إلى داخل أسوار الكاتدرائية: الزموا حدودكم، ما لكم هو الحق في بناء كنيسة، والحق في الزواج وفق شريعتكم.
لا يرى السلطوي الطائفي الخشبة في عينه، ولكنه يؤسس تيارات سياسية طائفية هي أذرع سياسية لتجمعات اسمها “الإخوان المسلمون” و”الدعوة السلفية” و”الجماعة الإسلامية” ثم يلوم على المختلفين دينيًّا والأقليات المذعورة من مشروعهم الطائفي أنهم في “الصف الآخر”.
ولكن هذين الجانبين تفصيلاً يفصحان أكثر عن الاكتشاف المستعاد. ما زال تنظيم الترخيص للكنائس حتى هذه اللحظة يخضع لشروط الخط الهمايوني من الخليفة العثماني. الذي سمح لغير المسلمين ببناء دور عبادة لكن بعد ترخيص يصدره الخليفة نفسه أو من ينوب عنه، وحاليًا يمارس هذا الحق رئيس الجمهورية باعتباره –بشكل أو آخر- نائبًا تاريخيًّا للحاكم المسلم الأعلى. أما فيما يخص الأحوال الشخصية فالمواطن المسيحي إن أحب التمتع بحقه في الطلاق أو الزواج مرة أخرى تعيده الدولة إلى أسوار الكاتدرائية، وتخبره أن حقوقه كمواطن غير مكفولة إلا داخل أسوار طائفته، وبما أن الكنيسة الأرثوذكسية لا تسمح بالطلاق والزواج الثاني، فلا حق له فيهما خارج أسوارها.
النص الدستوري الجديد لا يتحدث عن أي حق جديد إضافي على ما يقرره الخط الهمايوني العثماني، ولا يعالج التلاعبات والتقييدات التي تقيد ممارسة ذلك الحق التي كانت ولا زالت موجودة. إلا أن النص الجديد يرسم داخل الدستور أسوار الكاتدرائية وأسوار مثلها متخيلة لطائفة يهودية تنقرض تدريجيًّا. ويضيف الدستور أن أي اعتقاد خارج أسوار هذه الطوائف لا يتمتع بنفس الحق في اتخاذ دور عبادة.
يستند السلطويون الإسلاميون على تاريخ من السياسات والأوضاع القانونية التي لم يساهموا في تشكيلها بشكل مباشر، ولكنها تمثل انسداد التحول في المجال الديني من دولة خلافة إسلامية، أو إمارات وممالك تابعة لها كانت تمثل مظهرًا لسيادة المسلمين على غيرهم بقوة السيف والفتوحات، إلى جمهوريات ديمقراطية تأسست على نضالات شعوبها وتحررهم من الاستعمار، ثم ثوراتهم على أنظمة التحرر الوطني المستبدة.
ذلك الانسداد يتفاعل طوال الوقت مع شعور طائفي بالهيمنة والسيادة يختفي خلف مواقف رسمية وفكرية مطمئنة تتحدث عن التعايش والمساواة والحرية التي أتى بها الإسلام من أول لحظة أصلاً، وتتمتع بها الشعوب منذ الفتح الإسلامي وليست قيمًا وترتيبات وليدة الاتجاه نحو الديمقراطية.
ذلك التمويه المتعمد –سياسيًّا وفكريًّا- وهذه الطائفية الكامنة هي الرافعة الأكبر للسلطويين الإسلاميين التي وصلت بهم إلى السلطة وكانت عونهم الانتخابي. الوجه المموه يظهر في لحظات التوافق والطائفية الكامنة يتم إشهارها في حملات الجولات الأخيرة الفاصلة. ولذلك السلطويون الإسلاميون هم أبناء هذه الطائفية بوجهيها. وهم مدينون لها ولا يمكنهم إلا أن يستمروا في التأرجح بين التمويه والإشهار كما فعل أسلافهم بنفس الديباجات المتخشبة المعسولة، وبنفس الممارسات الخشنة التي يكررها محمد مرسي كما كررها محمد حسني مبارك.
ولكن السلطويين الإسلاميين أكثر إخلاصًا في التمويه والإشهار. وعند احتدام المعركة تنكشف أسنّة الأصول الفكرية والمشاعر الشعبية، وتنفلت التصريحات الرسمية التي تحاول باكتشافاتها المتكررة عبثًا أن تستعيد “حقيقة الصراع” بين الإسلام وأعدائه.
الحقيقة المتوهمة للصراع تحاول أن تعمى عن مشهد الاستقطاب السياسي بين السلطويين الإسلاميين وبين قوى مقاومة لسلطويتهم لا تتشكل طائفيًّا ولكنها بالضرورة تضم القطاعات الأكبر من المختلفين دينيًّا، وتنحاز إليهم “الطوائف الأخرى” التي تخشى على حقوقها، والتي خرج الكثيرون من أبنائها منذ انطلاق الثورة من الأسوار الطائفية إلى رحابة ميادين الثورة، بل وسطرت أسماؤهم كـ”شهداء” جنبًا إلى جنب مع شهداء مسلمين وشهداء لا يسأل كثيرون عن ديانتهم لأنهم في النهاية “شهداء الثورة”. ولكن السلطويين الإسلاميين يحبون بأوهامهم الثاقبة ألا يروا أمامهم إلى طوائف متمردة على “سيادة المسلمين” التي هي جزء من إرث هذه المنطقة من العالم أو “ما وجدنا عليه آباءنا” ولكن السلطويين الإسلاميين يمارسون تلك العادة الجاهلية تحت اسم مستعار يطلق عليه “هوية الأمة”.
في هذه اللحظات يظهر جيدًا في أي اتجاه يسير السلطويون الإسلاميون. إعادة اكتشاف الطائفية هي نفسها استعادة السعي في اتجاه “الخلافة” ولو كحلم أو كهدف بعيد المدى والمنال. ولكن الخطوات إليه هي في الاتجاه المعاكس لاتجاه بناء اجتماع ديمقراطي، حتى وإن تذرعت بأدواته وبعض ديباجاته.