17 November 2012

إنذار للأئمة الإصلاحيين الوارثين للبؤس الاجتماعي

«الإهمال الجسيم تعاقَب عليه جهة الإدارة العليا متمثلة في إدارة السكة الحديد وفي الوزير المختص وفي رئيس مجلس الوزراء». هكذا قال محمد مرسي عام 2002في البرلمان في استجوابه الشهير حول حادثة قطار الصعيد.
ويبدو لي أنه كاد يقول «ورئيس الجمهورية»، لولا أن الحدود وقتها كانت لا تسمح عادة إلا بتحميل الوزراء المسؤولية وعدم المساس بالرئيس مبارك، كما أن الإخوان كعادتهم كانوا لا يحبون المساس بشخص الرئيس مبارك، مؤكدين دائمًا أنهم دعاة إصلاح لا ثورة، وربما تكون هذه هي المشكلة.
الآن أمام حادث مماثل لا يقل بشاعة في أسيوط، راح ضحيته عشرات الأطفال، ولا يبدو حتى أن سقف استقالة الوزراء ورئيسهم ولا حتى رئيس الجمهورية حل.
أحد جوانب هذه الكوارث المفجعة لا يمكنني أن أراه إلا بعضًا من ملامح أحداث الحياة المؤسفة التي يمكن أن تتأرجح بها الرعونة الإنسانية لسائق أو عامل ولا حيلة لضبطها تمامًا، ولكن هي في جانب آخر جانب من البؤس الاجتماعي الذي يسمح للرعونة والإهمال والاستخفاف بالحياة والتصالح مع احتمالات أخطار محدقة بأن تواجهنا بشكل يومي.
وهذا البؤس لا يبدو لي أن مواجهته مجدية على الطريقة الإصلاحية بتحميل المسؤولين التقنيين مسؤولية الكفاءة والإدارة. ذلك البؤس الاجتماعي الذي يجعل الموت والمرض والإهانة والإذلال احتمالات يومية وسمة نظام لا يبدو لي أنه يمكن أن يتغير فقط بنقاشات حول الكفاءة والمسؤولية.
الاعتقاد بأن «النظام السابق» كان نظامًا شيطانيًا يكره الوطن والإنسانية، ويتعمد كل رجاله الإهمال وعدم الكفاءة، وأن الفساد هو مشكلته الوحيدة، هو فرضية تثبت فشلها عندما لا يجد رجال النظام الجديد أنفسهم مضطرين لنفس خيارات النظام السابق والخضوع لسقفها.
ليست المشكلة الوحيدة في أن رجال النظام الجديد تصالحوا مع رجال النظام القديم الذين بدورهم كانوا متصالحين مع الفساد والاستبداد السياسي. ولكن المشكلة أن رجال النظام الجديد والقديم معا يفتقرون للخيال الثوري الذي يمكن أن يسلك طرقا جديدة.
 «ما عملناش ثورة علشان نخلع مبارك. إحنا خلعنا مبارك علشان نعمل ثورة». هكذا كانت تقول اللافتة التي كانت حملتها صديقة يومًا لتعبر عن فكرة الثورة، كما لا يزال يريدها كثيرون وكما لا يريدها كثيرون احتلوا كراسيهم ولم يعد لديهم وقت للخيال.
من أعلى الهرم السياسي، حيث يكتب الدستور وفي أدناه، حيث يتفاوض عمال وموظفون ومهنيون على مطالبهم الاجتماعية وضمانات أدائهم المهني لا تزال الاستجابات تدور في نفس الأفق القديم.
وبدلا من أن تتطلع الطاقات الشابة والخيال الثوري لأفق أرحب، فهي لا تزال تناضل في مواجهة السلطويين الجدد من أجل ألا يتردى الوضع إلى ما هو أسوأ. من أجل ألا يتردى الدستور إلى ما هو أسوأ من دستور 1971ومن أجل ألا يتم العصف بعمال المترو الذين نفذوا الإضراب، الأسبوع الماضي، بدلا من المضي قدما في ترسيخ الحريات النقابية وخوض جدل أوسع حول الحقوق العمالية.
لدى وزير النقل المستقيل الآن وقت كافٍ لكي يفكر مرة أخرى في مطالب عمال مترو الأنفاق بدلا من خطته المشتركة مع الشرطة التي أعلن عنها لاستباق محاولات الإضراب القادمة. ربما يفكر الآن ويفكر رئيسه ورئيسهما في أن العودة لحلول نظام مبارك الاقتصادية والأمنية لم تكن رغبات شيطانية مدنسة يتمرغ أصحابها في الدم ويحبون رؤية المصريين يتعذبون. ولكنها كانت حلولا إصلاحية تحاول الحفاظ على الاستقرار، ربما بكل صدق وإخلاص وفي نفس الوقت بكل صلف واستبداد.
ربما يفكر وزير النقل ومن قبلوا استقالته ومعه وزير النقل الجديد أن بعض مطالب عمال المترو التي نجحوا في فرضها على الرأي العام هي صورة من مطالب عمال آخرين في كل مكان. ربما يفكر لماذا كانت مطالبهم عصية التحقيق، ربما لأن مطالبهم تأمل في «ثورة» لم تصل للسياسات الحاكمة، وربما لأن «هيبة رأس هرم السلطة» ما زالت تحكم فلا يصح أن تأتي «مطالبات من أسفل الهرم» لتطلب إقالة قيادات وتغيير سياسات.  وربما يفكر هو ومن قبلوا استقالته أنه لنفس السبب يقيد مشروع «دستور الثورة» الحريات النقابية بالقانون الذي يشارك في إعداده وزير القوى العاملة، بشكل يراه نقابيون ذبحًا للحركة النقابية والعمالية الصاعدة، بينما يفترض أن تكون الحرية النقابية هي الساحة التي ستعبر فعلاً عن مطالبات الناس من قاعدة هرم السلطة.
هذه المطالبات حتى الآن لا تجد ردًا سوى الصبر والشغل وانتظار ثمار النهضة. النهضة التي لا تجيب على التساؤلات بخصوص النسبة بين  أجر وزير النقل وأجر السائق وعامل المزلقان، وعن النسبة بين تكاليف تأمين مزلقان يؤدي بعض الإهمال فيه إزهاق أرواح ملايين البشر وبين ملايين تأمين حركة الرئيس وباقي سلسلة الشخصيات المهمة.
 تلك النسبة هي هيكل هرم الظلم والتسلط الاجتماعي الذي يقف وراء الهرم المقلوب للبؤس الاجتماعي، الذي لا تحاول نهضة رجال النظام الجديد إلا ترميمه، ولكنه يحتاج لثورة تستمر حتى ينقلب رأسًا على عقب.

No comments: