31 October 2012

ولماذا لا تنظر معي في المرآة قبل أن نتكلم في السياسة؟

بالصدفة، وجدت صورة لي وأنا أمام مرآة وأمسك بطاقة «هويتي»، وأقوم ساخرًا بتأملهما في المرآة، البطاقة وهويتي.
كانت الصورة الساخرة مناسبة تمامًا للتعبير عن المسخرة التي حاولت أن أضعها أمام المرآة في مقالي الأخير »السجل السلفي لاستخراج بطاقات هوية مصر«، فنشرت الصورة ومعها المقال على فيس بوك.
 وكان ذلك مستفزًا بما يكفي لكي يقوم صديقي السلفي محمد إلهامي بالرد عليّ في مقال بعنوان: »عزيزي عمرو عزت لا تنظر في المرآة كثيرًا«.
أدعوكم لقراءة مقاله أولاً، ففيه صدق ووضوح وأقل قدر من المواربة في التعبير عن مراد السعي السلطوي الإسلامي السلفي.
ولكني أدعوه وإياكم، قبل أن نواصل كلامنا في السياسة، أن نعود إلى نقطة أقترحها بداية للتفكير في شؤون الاجتماع والسياسة، وهي النقطة المعاكسة تمامًا لنصيحته ألا أنظر كثيرًا في المرآة.
أدعو صديقي إلهامي أن يقف بجانبي أمام المرآة، أنا وهو فردان، لسنا متطابقين، بيننا اختلافات ولكن بيننا ملامح مشتركة، أولها بالطبع أننا نعتقد أننا ننتمي إلى نفس النوع المسمى بالإنسان.
 أنا أعتقد أنه سيكون من الأفضل تمامًا لو بدأنا التفكير في السياسة من نقطة: أننا قد لا نكون متشابهين ولكننا نعيش معًا هنا والآن. هل هناك ما يقول إنني أمتلك سلطة عليه لأجبره على شيء ما أو أحرمه من شيء ما أو أتمتع بشيء ما، بينما هو يعاني الحاجة والحرمان؟
بالنسبة لي، الإجابة: لا. ولا العكس صحيح. لماذا إذن لا نبدأ من اقتراح بسيط: أنا وأنت رغم كل الاختلافات نبدأ في العيش معًا باعتبارنا أفرادًا أحرارًا لا سلطة لأحدنا على الآخر. أليس من الأفضل أن نرتب معًا شؤون اجتماعنا وعيشنا المشترك بطريقة تسمح لنا بالتمتع معًا بهذه الحرية؟ لماذا لا يقوم عيشنا المشترك على أساس من المساواة؟ لماذا لا نستخدم هذه الموارد من حولنا بشكل يعود علينا بالنفع وبشكل لا يدع أحدنا محرومًا والآخر يتمتع بالوفرة؟
وأثناء ترتيب عيشنا المشترك لم لا نتفق على التزامات تخص مطالب العيش المشترك ولا تمس حريتنا، ولا تخل بمساواتنا في الحق في الحياة والتمتع بهذه الموارد من حولنا؟ لماذا لا نتفق على أنني مهما كان  تفكيري وسلوكي مختلفًا معك ولا يعجبك – بما لا يعتدي على شخصك أو حقوقك التي اتفقنا عليها – فإن ذلك ليس داعيًا لأن تستخدم القوة والسلطة في منعي أو تقييدي، والعكس صحيح؟
يمكنني أن أعتبر ذلك نقطة البداية والاقتراح الأساسي وراء الجهود المتصلة لأناس من أجل تحقيق عيش مشترك وحريات وحقوق مصونة في مواجهة السلطات السياسية والاجتماعية والدينية.
 ما نعرفه عن تاريخ البشرية هو أن هناك دائمًا من رأى أن لديه مبررًا للتسلط والسيطرة على غيره باسم  القوة البدنية أو العقلية أو العسكرية أو العلم والحكمة أو الأصل والعرق والعائلة أو الأغلبية العددية أو باسم رسالة وصلته من الله أو باسم إعلاء كلمه الله أو باسم تملك هذه الأرض ومن عليها أو باسم الاستعمار وبناء حضارة حديثة متقدمة أو باسم تحقيق العدالة الاجتماعية والمجتمع الشيوعي.
 ولكن كل هذه المبررات للتسلط تحتاج في النهاية إلى القوة لتحكم ولتبني سلطتها على الآخرين. إنها تعود في النهاية لسلطة القهر والقوة،
في مواجهة ذلك فإن اقتراح الحرية والمساواة ليس لديه إلا قوة جموع الناس، لكي تحاول أن تنتزع السلطة من أيدي هؤلاء المدعين ومبرراتهم، مثلما يحدث في الثورات، أو تقللها في الجهود الإصلاحية المديدة، وفي سعيها من أجل ذلك كانت فكرة «الديمقراطية». الديمقراطية كانت بالأساس استرداد مبرر السلطة إلى الناس جميعهم باعتبارهم أحرارًا ومتساوين، ويجب أن يستعيدوا السلطة التي يغتصبها فرد أو مجموعة أو طبقة تحت أي معنى.
هذه الاستعادة التي تعود بالسلطة للناس وفق الاقتراح الأساسي إن نقضته باسم رغبة الأغلبية فإنها تنصب تسلط مجموعة أخرى جديدة ولو كانت الأغلبية.
أنا شخصيًا لا أؤمن أن العدد الأكثر والأغلبية العددية يمتلكون الصواب. ما زال لا مبرر عندي للتسلط والتحكم. و«الديمقراطية» بالنسبة لي ليست إلا وسيلة وليست غاية في نفسها، بل هي، في رأيي ورأي كثيرين، أفضل النظم السيئة المعروفة لإدارة السلطة. ربما لأن بعض رغبات التسلط يمكن أن تتسلل إليها، ربما لأنها لم تطور تقاليد تضمن العدالة الاجتماعية أكثر. هي في النهاية أداة حققت تقدمًا كبيرًا على طريق الاقتراح الأساسي للحرية والمساواة، ولكن مازال هناك الكثير.
 لا بأس بالنسبة لي ولكنه ليس كفاية، لأنني في النهاية أدعو كل فرد ونفسي أن نعود إلى المرآة ليكون مدخلنا إلى السياسة ليس رغبة التحكم في البشر والتسلط عليهم، ولكن العيش معهم متذكرًا أنه لا مبرر لدي لأكون فوقهم ولا متمايزًا عنهم، ولا العكس.
ربما يكون في مقال آخر تفصيل عن السياق التاريخي للديمقراطية، وكيف أن بداخلها صراعًا بين الاقتراح الأساسي للحرية والمساواة  وبين بقايا رغبات التسلط القديمة وبذور رغبات تسلط جديدة، بعضها باسم الشعب.
 ولكني الآن سأنتقل إلى صديقي إلهامي الواقف بجانبي ينظر معي في المرآة وهو يقترح عليّ العكس من ذلك مشروعًا للتسلط اسمه «استعادة الخلافة الإسلامية»، وهو مشروع يقوم بالأساس على امتلاك المسلمين مبررًا للتسلط على غيرهم وإنفاذ ما يرونه صلاحًا لأن دينهم يأمرهم بذلك، والمسلمون هنا يقررون حدود الحقوق والحريات ويقولون للآخرين المفعول بهم: لكم ما – قررناه نحن-  لنا، وعليكم ما – قررناه نحن- علينا.
 ولكن بأي حق يقول إلهامي ذلك لي أو لغيري. إنه يتجاهل النظر في المرآة ليرى نفسه فردًا وأنا فرد وليس لأحدنا سلطة على الآخر. وفي الوقت نفسه مشروع الخلافة قام تاريخيًا على القوة والغزو كما في كل مشاريع التسلط، وذلك غير متاح حاليًا، ولذلك إنه يحدثني باعتباره «كثيرًا»، باعتباره «إسلاميًا» نظر في الواقع فرأى نفسه كثيرًا ويذكر إحصائية نسبة المسلمين في مصر، يبدأ بمبرر «الأغلبية» ليقول لي أنا أقوى منك وأكثر منك عددًا، ولذلك لي سلطة تحديد شيء اسمه «الهوية» ليدعم بها الأغلبية لتكون عنده «هوية الأغلبية».
ينحاز إلهامي هنا إلى تلك الثغرة في إجراء ديمقراطي، بينما هي حجة لا أساس لها عند من يتحدث عن «استعادة الخلافة» وهم عموم السلفيين، لصديقي إلهامي ولهم الحق طبعًا في استغلال الديمقراطية، فهي مجرد وسيلة يمكنها أن تستخدم ضد الاقتراح الأساسي الذي طالما استخدمت من أجله، ولكن التناقض هنا أن الفتح الإسلامي لمصر مثلاً لم يستند إلى هوية الأغلبية في ذلك الوقت، كانت الوسيلة هي القوة ولا شيء غيرها. وهو هنا يبحث عن أي وسيلة لاستعادة هذه القوة لكي يبرر مشروعه السلطوي.
 ولكن المشكلة أن هذه الأداة «الهوية» لا تستقيم له بالكامل، فيضطر لتحريفها إلى «هوية الأغلبية»! 
المشكلة أيضًا أن الأغلبية التي يتحدث عنها هي «كل المسلمين» في مصر، ولذلك فهو يستشهد تأييدًا لهويته التي أعارضها بتعداد طائفة تضمني! وتضم ملايين ممن يعارضون رأيه ومشروعه بوضوح من المسلمين! لا يتبقى له غير أن يقول إنني أعرف هويتهم أكثر منهم! هلّا شققت عن صدورهم وهويتهم يا صديقي؟
هناك حالة من الإنكار أن هناك تنوعًا وانقسامًا يقاوم الرغبات السلطوية الإسلامية. هذه الحالة من الإنكار لخصها ببراعة كارل بوبر في كتابه «المجتمع المفتوح وأعداؤه» قائلا إن السعي للمجتمع الشمولي فيه حنين إلى «القبيلة» التي لها هوية واحدة وثابتة، والمشاريع الشمولية تحاول أن تتوهم تلك الهوية الصافية الثابتة وتحاول أن تقاوم تغييرها، بسبب ممارسة أفرادها لحرية الفكر والتعبير أو لتطلعهم إلى المساواة. لذلك نفهم ذعر الإسلاميين من إطلاق هذه الحريات أو إطلاق طلب المساواة، والرغبة في تقييدهم.
الجدل حول الدستور هو ببساطة جدل بين موقفين، موقف يحاول استخدام ثغرات وسوءات الديمقراطية من أجل رغبات سلطوية تدعي أشياء تخفي بها في النهاية رؤيتها لنفسها في المرآة أنها الأقوى/الأكثر ولذلك عندها مبرر للتسلط، وموقف يحاول أن يستخدم الدستور وأدوات الديمقراطية للتقدم على طريق الاقتراح الأساسي.
الاقتراح الأساسي الذي يرى الناس فيه أنفسهم في مرآة المجتمع متساوين لا سلطة لأحدهم على الآخر، وبالتالي لا احتجاج بأي قوة، بل بالرغبة في العيش متساوين.
 الاقتراح الأساسي بالحرية والمساواة الذي كان ببساطة هو الهتاف المشترك للذين نزلوا معًا إلى الشوارع  دون أن يسألوا بعضهم عن الهويات وإن كان أحدهم ينتمي إلى الأغلبية أو الأقلية. كانوا ببساطة أفرادًا متجاورين بلا سلطة فوقهم ولا تسلط بينهم يستخدمون القوة فقط وهم يقاومون سلطة جائرة ليبدأوا اجتماعهم وفق الاقتراح الأساسي الإنساني البسيط: عيش. حرية. كرامة إنسانية.
من يريدون تقويض هذا الأساس وتقييده هم فعلًا من يسرقون الثورة ويخونوها ولو كانوا ثوارًا ولو كانوا كثيرًا وأعجبتهم كثرتهم.

No comments: