24 February 2013

عصير الصندوقراطية

أتوجه بخالص التهاني لفريق «أبناء كوزموس» بمناسبة فوزهم ببطولة كرة القدم التي أقيمت الخميس الماضي أمام مقر جماعة الإخوان المسلمين في المقطم، بعد تغلبهم في النهائي بثلاثة أهداف مقابل هدفين على فريق «حسن الباندا»، رحمه الله.
ما فات ليس مزاحا، البطولة أقيمت بالفعل وكانت واحدة من المظاهر التي تتناثر الآن في شوارع مصر كأشكال من «الاحتقار المدني» لسلطة الإخوان المسلمين، التي وصل بؤسها إلى حد أن يجري بين المصريين حوار مجتمعي مفتوح وواسع حول انقلاب عسكري مقترح للخروج من الأزمة.
 
الحوار المجتمعي الواسع يبدو «ديمقراطيا» جدا في نقاشه حول «جدوى الديمقراطية» و«اختيار» الانقلاب العسكري إلى درجة تجعل من الممكن تخيّل أن يكون الانقلاب أحد خيارات التصويت في أقرب انتخابات. لم لا؟ ألا تعني الديمقراطية مجرد الاحتكام إلى الصناديق؟ لماذا لا يمكن للناس الاحتكام إلى الصندوق لاختيار حكم عسكري؟ لماذا لا يمكن للناس الاحتكام إلى الصناديق للنقاش حول جدوى الديمقراطية؟
 
ولأن قيم الديمقراطية هي قيم غربية وافدة علينا ينتقي السلطويون الإسلاميون منها ما يوافق «هويتنا» ويوافق فكرهم السلطوي الإسلامي، لماذا لا ينتقي منها محبو الحكم العسكري أيضا جانبا يروق لهم طلبا لهوية أخرى عريقة في السلطوية واستبداد العسكر. 
 
برغم احتقاري دعوات استدعاء الجيش إلا أن السلطويين الإسلاميين ليسوا أكثر ديمقراطية من أصحاب هذه الدعوات، ولكنهم فقط أكثر «صندوقراطية» منهم. السلطويون الإسلاميون هم التهديد بانتهاك أصل الفكرة الديمقراطية عبر الصناديق التي تدفع طرفا آخر مذعورا للكفر بإجراءات الديمقراطية.
 
ممارسة الديمقراطية إما تستند لرغبة في السعي ناحية التحرر والمساواة والعدل تتمثل في ضمانات لذلك واتفاق مبدئي على ذلك، لتكون آليات الديمقراطية أدوات للسعي في اتجاه هذه القيم وتشارك الناس في كيفية تحقيقها، وإلا فهي «صندوقراطية» عبثية. مجرد مسابقة لـ«حكم الأكثر»ـ الحاصل على العدد الأكبر من الأصوات يقوم بعدها بالتمتع بالسلطة وتصبح رغباته السلطوية مشروعة.
 
هذه العقيدة تجعل السلطويين الإسلاميين لا يرون في مظاهر مقاومة مشروعهم وإدارتهم الفاشلة إلا مؤامرات «قوى منافسة» يعايرونها بضعف قدراتها الانتخابية. وبخلاف ذلك، بفرض وجوده، لا يرون «ناس» تريد أن تعيش حرة وكريمة ولو لم تكن منظمة ولا متحزبة ولا لديها خطط لحكم البلد والعالم.
 
النظرة الصندوقراطية لا ترى «المعترض» المتخوف على حقوقه ومستقبله وتطالبه بأن يكون بالضرورة «معارضا» عليه أن يذهب ليتنظّم ويشكل فريقًا لينزل إلى دوري الصندوقراطية.
تطلب الصندوقراطية من الإنسان أن يجعل حياته مشروعا للتسلط والصراع على التحدث باسم إرادة الشعب، بدلا من أن تكون الديمقراطية مقاومة لأشكال السلطة فوق الناس ليتحرر الناس من كل سلطوية ويعيشوا حياتهم في حرية وكرامة.
 اتجاه الديمقراطية التحررية هو محاولة لتفكيك كل جانب سلطوي في السياسة والإدارة لكي تتحرر حياة الناس منها، بينما اتجاه الصندوقراطية يرهن الحياة للسياسة والصراع على السلطة والإدارة.
 
الفكرة الديمقراطية لا تزال إجراءات تحققها في أول الطريق، وجمهورها مهزوز بين الثقة فيها وبين التخلي عنها والحلم بمستبدين «عادلين»  على غرار عبد الناصر أو الرضا بأشكال أقل كاريزما وأكثر بؤسا على غرار المجلس العسكري يواجهون به الصندوقراطيين الإسلاميين.
 
 لكن أساس الفكرة الديمقراطية، بعيدا عن الإجراءات، يتفجر غضبا في الشوارع. المعارضون والمعترضون لا يجدون مفرا من أن يتركوا حياتهم إلى ساحة السياسة بدلا من أن يتركوا أمورهم لفائز غشيم لا يحسن إلا الفوز في مسابقة الصندوق، ويريدهم أن يكونوا كومبارس في مشروع طائفي سلطوي فاشل.
الصندوقراطية بالطبع لا يمكن أن تكون أساسا لاجتماعهم المطمئن، وعندما تأخذ أصواتهم في صندوق وتطلب منهم الانصراف مطمئنين، فإنهم لا ينصرفون ويحتشدون في الشوارع غاضبين ومتشككين. وعندما تفشل الصندوقراطية في إرساء أسس الاجتماع المشترك تظهر أفكار الانفصال والاستقلال، وهي على عبثيتها في اللحظة الحالية ذات دلالة كبيرة: لماذا نظل نصارع رغباتكم السلطوية التي لا نرتضيها في مسابقة صندوق واحد. لكم صندوقكم ولنا صندوقنا؟
 
في محل لعصير القصب، كان الشاب الإخواني مهذب اللحية يواجه بابتسامة دعوية سيل الانتقادات اللاذعة الموجهة من عم حسن صاحب المحل وزبائنه إلى مرسي والإخوان والحكومة.
 اعترف لهم الشاب في شجاعة بإخوانيته وقفز فوق كل الانتقادات ليطلب منهم أن ينتقوا قنوات فضائية موثوقًا فيها لكي يعرفوا حقيقة ما يحدث. سأله أحدهم: «نسمع مثلا قناة مصر خمسة وخميسة، مع الأستاذ خميس، اللي باسم يوسف بيروّقه كل جمعة؟». ضاقت ابتسامة الشاب قليلا ولم يجد مفرا من القفز فوق كل الكلام والنقاش ليعود إلى أصل العقيدة السياسية، ويقول في حفلطة: «طيب الأفضل من الكلام هو أنكم تنظموا نفسكم وتجهزوا لأقرب انتخابات والناس تقول رأيها في الصندوق وتديروا إنتم البلد بما يصلح».
بتزامن غريب شكا بعض الزبائن من آلام حادة في الخصيتين، أما عم حسن فلم يتوقف عن وضع أعواد القصب في ماكينة العصر، وقال دون أن ينظر إلى الشاب الإخواني: «حاضر يا باشمهندس. ثانية واحدة. هاروح أتنظّم وأجيلك».
 
غفر الله لحسن البنا، وحظ أفضل لفريق "حسن الباندا" في البطولات القادمة.

نشر في المصري اليوم بتاريخ 24 فبراير 2013

No comments: