قال لي: «لو كنت صبرت قليلا داخل الإخوان المسلمين، لكنت الآن أحد شباب حزب (الحرية والعدالة) وأحد كوادر الحزب الحاكم ولديك القدرة على التأثير الإيجابي على مستقبل البلد، بدلا من أن تظل دائمًا في موقع الأقلية المعارضة».
ابتعدت عن «الإخوان المسلمين» مرتين، مرة في أول الدراسة الجامعية، لأنني لم أطق صبرًا على روحها ومواقفها، التي أدمنت الدوران اللانهائي في المكان، وفضلتُ ساعتها الصلابة المبدأية في التيار السلفي، أو في قطاع منه.
والمرة الثانية في نهاية المرحلة الجامعية، بعد أن بلغني من أحد مشرفي «الجماعة» على النشاط الطلابي أن العدد الذي حرّرته من مجلة «التيار الإسلامي» في جامعة القاهرة مليء بـ«كلام اليساريين»، فشكرته واتجهت يسارًا.
لم أكن وحدي، الذي يعيش تحولات سريعة وقلقة، ولكن العديد من أبناء جيلي، جيل بداية الألفية، كانوا كمن يسابقون الزمن في البحث والتجريب، بحثا عن موقف ومخرج من أيام راكدة وبليدة لا تناسب تطلعاتنا.
أبناء هذا الجيل، الذين ساقتهم رحلة التحولات والتجارب إلى داخل جماعة «الإخوان المسلمين» عشت مع العديد منهم لحظة اختيار مفصلية: «الصبر على الركود والتكلس الحركي والفكري داخل الجماعة والبقاء كـ(أقلية قلقة) تبحث عن مساحات حركة في الداخل، وإما الخروج والبحث عن ساحات أخرى».
الآن.. في هذه اللحظة التي أنقذت فيها الثورة جماعة «الإخوان» من الدوران في المكان ومكّنتها من المضي قدما، فإن كل من أعرفهم تقريبا من شباب «الإخوان»، بمن فيهم ممثلو الجماعة في تنسيق احتجاجات يناير الماضي واعتصام التحرير، قد تركوا الجماعة إلى خيارات أخرى أكثر حيوية وتجددًا ومغامرة، من بينها حزب «التيار المصري»، أو انسحبوا من الجماعة، احتجاجا على مواقفها الأخيرة أو انحيازًا إلى «حملة دعم عبد المنعم أبو الفتوح مرشحًا للرئاسة».
وأصبحنا مرة أخرى، أنا والعديد من رفاق النشاط الطلابي الإخواني، مرة أخرى معا في خانة «الأقلية السياسية القلقة».
التعبير الأخير كان عنوان المقال الأحدث لرفيق حبيب في جريدة حزب «الحرية والعدالة»، وحبيب هو نائب رئيس حزب الإخوان، «الحرية والعدالة»، والذي يحلو للكثيرين وصفه بـ«المفكر القبطي».
وتشاء الأقدار أن العديد من الأصدقاء، الذين تكاد الدماء الإخوانية تسري في عروقهم، ينطبق عليهم الآن وصف «الأقلية السياسية القلقة»، بينما السيد «حبيب» يتحدث من فوق كرسيِّ الأغلبية السياسية المنزعجة من تصرفات هذه الأقلية.. دنيا !
خلاصة وصف «حبيب» للأقلية السياسية القلقة أنها «تتكون من مجموعات شبابية وعلمانية»، ليبرالية ويسارية، ترى أن لها دورًا مركزيا في الثورة المصرية، ولكنها لم تنل ثقة الناخبين ولا تجد لها دورًا في المسار السياسي، فهي معادية لعملية التحول الديمقراطي، وتحاول أن تضيف لرصيدها كتلا جماهيرية قلقة من المهمشين وأسر الشهداء والمصابين، وقضيتها المحورية هي القصاص لدماء الشهداء والمصابين حتى تبقى الحالة الثورية في الشارع، وعن طريق استمرار التظاهر والاعتصام تضيف شهداء ومصابين جددًا تتظاهر من أجلهم في دائرة مفرغة- حسب رأيه- وتحاول أن تفرض مسارًا سياسيا انتقاليا (علمانيا) بعيدًا عن صندوق الانتخابات الذي فشلت في أن تكون مؤثرة فيه».
وأشك أن السيد «حبيب» لا يعرف شيئا عن مجموعات شباب «الإخوان»، التي تتحرك الآن خارج الجماعة وسط «الأقلية السياسية القلقة»، لذا يكون من الاختزال ابتداءً وصفها بـ«العلمانية» أو أن حركتها يحكمها محاولة فرض سيناريو «علماني».
ولكن بعيدًا عن الاختزال، فإن هذه المجموعات، التي كان لها دور مركزيٌّ بالفعل في إشعال شرارة الثورة المصرية، لديها مشروع للتحرر من السلطة وتقويمها أكثر من كونها لديها مشروع للحكم والسلطة.
يمكنني أن أتفق مع السيد «حبيب» أن بعض هذه الأقلية قلق بالفعل، لأنه يحاول أن يجادل في الافتراض السابق أو يتجاوزه، وكان لديه من الآمال أكثر من أن تظل هذه الأقلية معارضة نشطة تقوّم حركة السلطة وتصحّحها.
الدعوات المستمرة لأن تنظم قوى الثورة والمجموعات الشبابية نفسها لتحكم، تنبع من هذا القلق وتكرسه، ولكن إن سمحتُ لنفسي أن أتحدث باسم قطاع من هذه «الأقلية القلقة» أراه يعبر عني وربما يرى كلامي معبرًا عنه، إنها أقلية تتسم بالفردية الشديدة والحركة العفوية القائمة على المبادرة والتوافق بعيدًا عن السمع والطاعة التنظيمية والمواقف الجماعية المنظمة، ومحاولتها الإبقاء على الحالة الثورية في الشارع من السخف وصفه بالمؤامرة التي تستهدف المزيد من المصابين والشهداء، ولكنه ببساطة إصرار على أن تفرض الحالة الثورية أكبر مساحة من الحريات في الشارع، وهي الضمانة الأساسية لاستمرار الديمقراطية، التي ليست مجرد ورقة في صندوق تفرح به الأغلبية وتستقر على الكراسيّ.
تلك الأقلية القلقة، ومعها كتل المهمشين إن استمرت حركتها في إضافة مصابين وشهداء جدد، فهي دليل على أن السلطة لا تزال تنتهك حياة المواطنين، وهو ما يثير القلق ممن يدير المرحلة الانتقالية ومن يسكت على هذه الإدارة تذرعا بأنها فترة انتقالية يتم فيها «تأسيس الديمقراطية»، هل يمكن تأسيس الديمقراطية دون حرية الاحتجاج، التي أتت بها أصلا بعد طول غياب؟.
المقلق حقا هو أنه بعدما ارتدت الأغلبية ثياب السلطة أصبح لسانها وجريدتها يتحدثان عن المعارضة بقلق واتهامات: «هي مجموعات مقربة من الخارج.. أقلية تثير القلق وتريد اعتراض المسار الديمقراطي ولا تريد الصبر على مسيرة الإصلاح».. أنا أشم رائحة قلق الحزب الوطني.. دنيا !
قطاع كبير من شباب «الأقلية القلقة» يطالب الآن برحيل «المجلس العسكري» فورًا وبتسليم سلطة إدارة المرحلة الانتقالية لبرلمان هذه الأغلبية يوم 25 يناير، وربما في هذا ما يدحض كل كلام السيد «حبيب».
ولكن ما أحب أن أؤكد عليه أن قطاعًا كبيرًا من هذه «الأقلية القلقة»، ربما يكون أغلبيتها، سيحب دائما أن يستمر في كونه مسمارًا في كرسيِّ السلطة، لكي لا يستريح من هو فوقه آمنا مطمئنا، وربما من الأفضل أن يمارس السلطة واقفا قلقا مستعدًّا للرحيل في أقرب فرصة..
وإن كان قلق من هو على الكرسيِّ سيتصاعد وسينفد صبره الديمقراطي وينتهك الحريات، فإنهم سيحبون أن يكونوا مرة أخرى مسمارًا في نعش سلطته، والله الموفق.
نشر في موقع "المصري اليوم" الخميس 19 يناير 2012
العنوان مقتبس من أغنية لميريام فارس
1 comment:
بجد المدونة حلوة اوى
لكم منى اجمل تحيه
Post a Comment