21 April 2013

حقدنا أكبر من حريتنا

قبل أسبوع تقريبًا حكم قاضٍ أمريكي على مقاتل أمريكي سابق في صفوف المارينز بالسجن 20 عامًا وبتعويض قدره 1.4 مليون دولار، لإدانته بارتكاب محاولة إحراق سجاد مسجد في ولاية أوهايو، بعد أن اقتحمه بدافع الانتقام للجنود الأمريكيين الذين قتلوا وأصيبوا على يد مسلمين، كما قال المحكوم عليه راندي لين في اعترافاته، ولكن القاضي رد على مبرراته في ديباجة الحكم قائلاً إن «مرتكبي جرائم الكراهية من أمثاله يريدون أن يدمروا ما هو أبعد من المباني، إنهم يستهدفون نمط حياتنا... لأن حريتنا أكبر من حقد هذا الرجل».
العبارة الأخيرة لن تجد لها مثيلاً في ديباجة حكم من محكمة مصرية على أحد المعتدين على الكنائس أو حتى المساجد ذات الأضرحة التي تعرّض بعضها للاعتداء والحرق، بل والهدم الجزئي والكامل، لأنك لن تجد أصلاً أي حكم أو إدانة في معظم القضايا.
المعتدون على الكنائس بشكل خاص بدافع الكراهية الدينية يتم تفهم حقدهم في جلسات صلح عرفية كانت تتم تحت رعاية جهاز أمن الدولة ورموز الحزب الوطني سابقًا، والآن تتم برعاية وفود من الأزهر والكنيسة ومشايخ السلفيين والإخوان، بينما السلطة تواصل الإنكار مثل سابقتها ويواصل القيادي الإخواني محمد مرسي عادة إخوانه في الكذب حتى مساء أمس في حواره مع قناة الجزيرة، مؤكدًا أن ما يقال عنه «أحداث طائفية» هي مشاجرات عادية وليست طائفية.
وكأن العادي في إثر جريمة يرتكبها مصري مسيحي أو في إثر مشاجرة بين مسلم ومسيحي أن ينتهي الأمر إلى اعتداء وانتقام طائفي من سائر المسيحيين في محيط المكان ومكان عبادتهم الذي لا علاقة له بالمشاجرة أو الجريمة، ماذا يمكن أن تكون الطائفية غير ذلك؟
ولكن يبدو أن القيادي الإخواني محمد مرسي وفريقه الرئاسي وهم يمزجون الكذب بالجهل يضيفون إليه الصفاقة وهم يغضون البصر عن الحال المتردية للحرية الدينية ويضيفون المزيد من الحقد والكراهية الدينية إلى المجتمع.
قبل أيام صرح متحدث باسم الرئاسة "أن مصر ستظل سنيّة". ليس لدي شك في أن عضو الفريق الرئاسي الفاشل لا يعلم هو ولا رئيسه شيئًا عن حدود مهماتهم التي لا تشمل تقرير مستقبل عقائد أهل مصر، ولكني متفهم أنه ورئيسه وجماعته في سبيل التخفيف من حقد حلفائهم السلفيين بخصوص عودة السياحة الإيرانية اضطروا لتطمين الحقد الكبير في قلوبهم ببعض الكلام الفارغ.
تفهّم حقد المعتدين على الكنائس وطمأنة حقد المحرضين ضد الشيعة هو سلوك سياسي متسق مع حقيقة أن حقدنا أكبر من حريتنا.
حريتنا في مجال الدين لا تكاد تظهر أصلًا، وإن أردنا التحدث عن الحرية الدينية في مصر يمكننا أن نقول: بسم الله الرحمن الرحيم .. لا توجد حرية دينية في مصر.
في مصر هناك خيارات محددة فيما يخص الدين: أن تكون مسلمًا سُنِّيًّا أو مسيحيًّا (أرثوذكسيًّا أو كاثوليكيًّا أو بروتستانتيًّا) أو يهوديًّا، لكي تسمح لك الدولة– نظريًّا - بحرية ممارسة الشعائر.
ولكن بالطبع لست حرًا في أن تكون مسيحيًا أو يهوديًا أو مسلمًا غير سُني وتفكر في ممارسة حريتك الدينية في مساواة مع المسلم السُّني. باقي أهل الذمة من الطوائف غير المسلمين السُّنة لا يمكنهم بناء دار عبادة إلا بموافقة الخليفة وفق الخط الهمايوني الصادر سنة 1856م من الخليفة العثماني. وهو بالمناسبة يشبه أفضل دستور شهدته البشرية في أنه ينص على مساواة كل رعايا الدولة العثمانية في الحقوق والواجبات، وفي التفاصيل يمارس التمييز ويرهن بناء أي دار عبادة– غير المساجد بالطبع - بترخيص من الخليفة.
ولأننا فيما يبدو لم نتجاوز في المجال الديني حتى هذه اللحظة حالة الطوائف الخاضعة للخلافة الإسلامية السُّنيّة فإن رئيس الجمهورية يتولى إلى الآن سلطة الموافقة على تراخيص دور العبادة بدلًا من الخليفة، حتى صدور تشريع يسمح ببناء دور العبادة أو عودة الخلافة أيهما أقرب.
وحتى لو كنت مسلمًا سُنيًّا تنتمي لفكر مجموعة لا تحبها وزارة الأوقاف ولا تراها فكرًا إسلاميًا صحيحًا وسطيًا، لا يمكنك أن تتخذ مسجدًا ولا أن تمارس فيه الخطابة أو الدعوة وإلا وقعت تحت طائلة القانون وربما تعرضت للحبس والغرامة.
الخلاصة: لا توجد  - بالمعنى القانوني - حرية دينية في مصر لا للمسلمين ولا لغيرهم.
ولكن يوجد وضع سلطوي وتقييدي يمكن للسلطة استخدامه ضد كل واحد أو مجموعة ويمكنها أن تتجاهل هذا أو ذاك.
وهذا الوضع مثالي بالتأكيد، لكي يمارس القوي حريته استنادًا لقوته – وليس لحقه وحريته– ولكي يظل الأضعف والمختلف تحت تهديد عسف السلطة أو حقد الذين يكرهون الاختلاف أو يكرهون سائر البشر، أيهما أكبر.
الوضع القانوني لحرية الدين في مصر وضع مثالي، لكي يقف عليه الحقد الطائفي ويهاجم كنيسة تنتظر عشرات السنين ترخيصًا من رئيس الجمهورية شخصيًا ، أو يهاجم شقة يجتمع فيها بعض الشيعة أو بعض البهائيين أو مسلمون يتم اتهامهم بأنهم «قرآنيون».
الكراهية الطائفية هي الصديق الصدوق للسلطوية الإسلامية. السلطويون الإسلاميون، الذين يحيلون كل مفرق سياسي إلى معركة بين «الإسلام» وكارهيه، لا يمكنهم أن يتخلوا عن الكراهية الطائفية كحليف انتخابي. هي «البلطجي» الذي يعمل في خدمتهم في أوقات الأزمات. البلطجي الذي لا يمكن أن يتنكروا له ولفضله، وفي الوقت نفسه لا يمكن أن يفخروا به أو يشيدوا بأفضاله، ولكن رد الجميل والحفاظ على حبل الود والتعاون يكون بالستر الجميل وإنكار وجود هذا البلطجي وأفعاله، لكي يستقر هناك في أمان في انتظار استثمار الكراهية الطائفية في تأييد قرار سلطوي جديد أو غزوة صناديق مقبلة.

نشر في المصري اليوم بتاريخ 21 ابريل 2013

17 April 2013

وجوه محمد يسري سلامة وإخوانه

الصورة لـ«سامح مشالي»
في الأيام الأخيرة التي سبقت الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة كدت أصاب بالتسمم. كان سباقا محموما على الظهور التليفزيوني قد بدأ بين البؤس والتعاسة ممثلين في مرسي وشفيق.
كانت الرؤية المتكررة المكثفة لوجهيهما أسوأ أثرا على نفسي من انهماك الناس في تحديد أيهما أقل سوءا.
الظهور المكثف لمرسي منفردا أيضا لا يزال مثيرا للغثيان ومسببا لآثار جانبية سيئة، رغم محاولاته تشتيت انتباهنا عن طريق أصابعه الكثيرة الحقيقية والمتخيّلة، ورغم محاولات باسم يوسف الأسبوعية لصنع ملهاة مسليّة من المأساة المخجلة.
ولأن الحرص على سلامتنا النفسية ضرورة أنصح من حين لآخر أن يكون هدفا لنا أن نتعرض لوجوه قد تعني لنا شيئا أجمل وألطف من رؤية وجوه البؤس التي تتسلط على واقعنا.
ولذلك فإني مدين بالكثير من اللحظات الجميلة لرفاق الثورة الذين أبدعوا الأعلام البيضاء الضخمة الجميلة لوجوه الشهداء: خالد سعيد، سيد بلال، عماد عفت، مينا دانيال، أنس، جيكا. ومؤخرا: الحسيني أبو ضيف.
رأيت العلم الذي يحمل وجه الحسيني أبو ضيف لأول مرة أمام محكمة المنشية في الإسكندرية السبت الماضي في الوقفة التضامنية مع حسن مصطفى، المحكوم عليه بالحبس سنتين لأن يده طالت وجه وكيل نيابة فيما زعموا.
ولكنني مدين أكثر لوجوه رفاق الثورة أنفسهم الذين مازالوا على قيد الحياة والثورة، وأتوا من كل محافظات مصر ليجددوا الولاء لحرية وكرامة الجميع وكل واحد منهم، ويرفعوا الأعلام التي تحمل وجوه الذين فارقوا عالمنا على طريق الحرية والكرامة والعدل، لكي لا تسر الناظرين ممن فارقوا طريق الحرية والكرامة والعدل، ولكن لا يزالون يعكرون عالمنا.
ابتسمت لمرأى وجه الراحل محمد يسري سلامة معنا هناك أمام محكمة المنشية. تخيله أحبابه لو كان حيا لكان معنا أمام المحكمة وليس مع المجموعات التي توزّع مطويات كراهية الشيعة في شوارع الإسكندرية. فصنعوا من وجهه قناعا ورقيا ارتدوه ورفعوه.
منذ رحيل يسري سلامة وأنا أفكر في مراجعة مقالاته وما كتبه. كان انطباعي دائما أنه معلّق في منطقة تفكير وحيرة يعبر عنها في مقالاته التي لم يعجبني معظمها أو أستوعب ما ترمي إليه بوضوح.
ولكني الآن على ضوء ذلك الحب والامتنان الذي أظهره كل من شاركوا وداعه أعرف أن تجربته وحضوره الشخصي في ساحات ثورة لم أشهدها في الإسكندرية ووسط أعضاء حزب الدستور هي أشياء أكثر دلالة من الكلمات والمقالات. لها نفس الدلالة التي لوجوه رفاق الثورة المؤتنسين بأخوتهم الجديدة التي يصنعونها بحضورهم الجسدي وسط وجوه الشهداء على الأعلام البيضاء الشفيفة المرفرفة حولهم.
تذكرت ما قاله محمد يسري سلامة في أحد مقالاته عن الشد والجذب بينه وبين صديق مسيحي بسبب عدم اهتمام سلامة بالاحتجاج على ما حدث لمسيرة ماسبيرو. وكان أجمل ما في المقال اعترافه بالشد والجذب بين رفيق الثورة المسيحي - بدلا من الإنكار الذي يغطي واقعنا القبيح بأغلفة الوحدة المزيفة – بل اعترافه بأن صديقه المسيحي «كان معه كل الحق». نادرا ما يقول الناس في مقالاتهم تلك العبارة.
إعلان سلامة عدم ارتياحه لاحتجاج الأقباط وحدهم بشعارات مسيحية – الذي وضعه قيد التفكير – كان قرين إعلانه رفض تظاهر الإخوان والسلفيين وحدهم تحت شعارات إسلامية، وليس كالسلطويين الطائفيين الذين دافعوا عن استخدام الشعارات الدينية في الانتخابات وبعد أيام انتقدوا المسيحيين لأنهم ليسوا كمسيحيي السويد يمكنهم أن يحتجوا ضد اعتداءات طائفية عليهم تحت شعارات وطنية علمانية.
ربما لهذا كانت رحلة سلامة من حزب النور لحزب الدستور إعلانا عن سلفي يقرر خوض مغامرة أن تكون مسلما سلفيا، ولكن تضع تحت مجهر التفكير والتجريب والتساؤل التراث الممتد للتفكير السلطوي الطائفي المرتبط بالتدين السلفي. يمكنك أن تكون سلفيا، متشددا أو متطرفا  - كما يقال – ولكن ذلك اختيارك لنفسك، أما الآخرون فلهم اختيارهم، وأنت وهم شركاء هذه اللحظة وهذا المكان.
وجه سلامة الذي أراه صورة بروفايل في صفحات أصدقاء مسيحيين ومسلمين وغير متدينين هو إعلان آخر أن هذا الاستقطاب وهذه المعركة التي تجري الآن ليست بين أنصار الدين وآخرين، ولكنها بين أنصار تفكير سلطوي طائفي وآخرين. تشبثهم بصورة سلامة ليس كيدا للسلطويين الإسلاميين – الذين هزّهم ذلك وكان واضحا في تعامل بعضهم مع رحيله – ولكنه كان احتفاء بالأخوة الجديدة التي بدأت تتشكل في ساحات الثورة.
ظهور زوجته كان ملمحا آخر بدا لي بالغ الدلالة، وكان أيضا سببا في تخبط أبلغ في ردود فعل السلطويين الإسلاميين. فالزوجة التي تحدثت عن خلافها في الرأي مع زوجها في مسألة "الحجاب" واحترامه لحريتها في عدم ارتداء غطاء الرأس، كانت صدمة للسلفيين، الذين أعتقد أن معظمهم لا تزال لديه مسألة سلطة الرجل على المرأة من قبيل الثوابت الأهم - راجع "لو كفر زوجها كفرت معه" - ومسألة جسد المرأة وما ترتديه هي عندهم أهم ما نزلت من أجله الأديان والرسالات والأنبياء.
تخلي سلامة السلفي عن الجانب السلطوي في علاقته بزوجته واحترامه لحريتها كانا صدمة بالغة لمن يعتنقون السلطوية مع وراثتهم للإسلام، وكانا استثناء فريدا ودالا على أصالة ما يحاول أن يختبره ذلك الرجل ويعلن انحيازه له.
يعتقد فيلسوف يهودي اسمه إيمانويل ليفيناس أن تجربة "وجه الآخر" هي التجربة المؤسسة لفكرة «الأخلاق». ذلك الوجه المحدق فيك عندما تحدق فيه هو ما يخبرك أن هذا الآخر هو مثلك تماما. وأن ما بينكما هو علاقة نديّة والتزام متبادل.
من لم ينزل بجسده وقلبه في ساحات الثورة ويتعلم ذلك المعنى: «أنه واحد وأن الآخر مثله وأخوه»، لم يتعلم شيئا غالبا، وعاد إلى بيته محتفظا بعقيدته الطائفية وفخره بكثرة «إخوانه» من نفس الدين والطائفة والتنظيم، وعاد مخلصا لمشاريع سيادة العالم كما تخبره الكتب التي على رف مكتبه أو كما أخبره شيخه.
أما الشيخ محمد يسري سلامة فقد تعلم شيئا واختبره وأعلن انحيازه لما ذاق وعرف، وعبّر عن حيرته وتحيّره أمام بعض ما ورثه من أفكار لم يجد حلاوتها في وجوه الآخرين. 

10 April 2013

الهلال المعقوف

كان بجواري في المدرسة ذلك الزميل المولع برسم الصليب المعقوف النازي على الدكّة الخشبية وعلى غلاف كراسته وعلى الجدران وفي أوقات متطرفة كان يفعل ذلك على قفا الزميل الذي يجلس أمامنا.
لم يكن ذلك زميلا بعينه، ولكن كان هناك دائما ذلك الزميل، مهما تنقلت بين الفصول والمدارس والمراحل الدراسية. وعندما سألت آخرين أجابوني بأنهم كانوا يجدون دائما ذلك الزميل المولع بالصليب المعقوف النازي.
بدأ وجود ذلك الزميل يتقلص مع التقدم في العمر ودخول المرحلة الجامعية، ولكن يحل محله أحيانا الاهتمام الكبير بسيرة حياة هتلر وكتابه «كفاحي». ويبدو لي أنه ليس خاليا من الدلالة وجود ذلك الكتاب دائما على الأرصفة كأحد أكثر الكتب شعبية ومبيعا. وإذا كانت المرحلة العمرية تقلل من احتمال أن تجد زميلا مهتما برسم الصليب المعقوف النازي في كل مكان فإنك لن تعدم هؤلاء الذين يكنون احتراما ما لهتلر ورغبته في نهضة قومية للألمان تقوم على نقائهم العنصري، كما أن هناك احتراما خاصا بعدائه لليهود واضطهاده لهم في إطار احتقاره لأشكال مختلفة من المختلفين: الشيوعيين والسلافيين والمثليين جنسيا والغجر والمعاقين.
كانت تلك التعبيرات عندي لا تفسر إلا في إطار رغبة الزميل الصبي في المراحل المتقدمة من العمر من إظهار قدر تمرده وبلطجته واعتزازه بهويته واحتقاره للآخرين وهويتهم، وأن فتوته وقوته تجعلانه أميل لتأييد أفكار تنادي بكل صراحة بإبادة الأعداء وقهر المختلفين.
ومع التقدم في العمر تبدأ بعض ملامح الاعتزاز بالهوية واحتقار هوية الآخرين والرغبة في البلطجة عليهم تمتزج بعوامل فكرية دينية ووطنية وقومية سائدة ومنتشرة بيننا كالماء والهواء.
 ويبدو إعلان احترام هتلر كتعبير عن معاداة الميل الغالب في عصرنا للتفكير في السياسة من منطلق مفاهيم مثل الديمقراطية والحريات والحقوق الإنسان. وبتأييد هتلر  يقف ذلك الزميل على أرضية متمردة – من وجهة نظره – على هذه الأفكار، ويعلن أن هذا العالم لا مكان فيه للمبادئ المثالية، وأنه يتعين على الإنسان أن يصير وحشا لكي يكون محترما بين الوحوش. وأنه في سبيل نهضة «ديننا» أو «وطننا» أو «قوميتنا» يجب علينا أن ندوس على «قلبنا» وعلى الأفكار المخنثة لاحترام المختلفين والضعفاء وأن نسعى للوحدة التي هي قرين القوة، وعلى الأضعف والأقل أن يخضع للأقوى والأكثر، وهذه هي سنة الحياة.
الصليب المعقوف تاريخيا لا علاقة له بالمسيحية، وعمره يمتد لقرابة 3000 عام قبل ميلاد المسيح، وهو رمز منتشر في الثقافات الهندوسية والبوذية وغيرها. ويرمز في الأغلب إلى «الحظ السعيد» أو «الخير».  وهناك تطورات في استخدامه في أوروبا في القرن العشرين ربطته بالاعتزاز بالعرق الآري، وكان ذلك فيما يبدو السبب في اتخاذه كشعار للحزب النازي في ألمانيا كدلالة على الكبرياء القومي القائم على العرق الآري الذي ينحدر منه معظم الشعب الألماني ويجعله خير عرق أخرج للناس.
الكبرياء القومي المستندة لهوية عادة ما يجد نفسه أمام مشكلة عدم النقاء، ومشكلة وجود أناس مختلفين. الهوية الصافية خرافة غالبا والواقع قاس ومليء بالانحراف والتشتت. ولذلك فإنه على ما يبدو فإن أي دفاع عن كبرياء قومي يقترن أو ينجرف لشكل من أشكال البلطجة القومية الداخلية على هذه العناصر التي تهدد النقاء والتجانس وبالتالي تهدد الوحدة والقوة، وهو ما يهدد بدوره مشروع البلطجة القومية الخارجية، أي مشروعات التوسع وبناء الإمبراطوريات لخدمة العرق الجيد صاحب الهوية الأفضل التي تعلو على باقي الهويات.
تلك العناصر التي تمثل اختلافا عن «هوية عامة» مفترضة هي مصدر قوتنا وعزتنا «المفترضة أيضا»، ويمكن ربطها دائما بـ«الخارج» ومخططاته من أجل التفكيك والتقسيم.
ومن أجل ألا ييدو العرق الخيّر معتديا فإنه يمكن الاستناد إلى روايات أو أحداث أو شخصيات تدعم هذا الربط أو هذا الافتراض أو اعتبار بعض آرائهم وأفكارهم خيانة أو عداء للهوية التي يجب أن تكون عليها الجماعة، لولا وجود هؤلاء المختلفين للأسف الشديد.
لا أدري تحديدا علاقة صالح ومصطفى وحمّو وبكار والشبح وبصلة وزتونة بكل ما سبق من الأفكار وهم يرسمون صليبا معقوفا بجانب أسمائهم على جدار معهد أزهري في قرية الخصوص. ربما كان التلاقح الثقافي المستمر مع الهندوسية أو البوذية يجعل الصليب المعقوف ما زال مجرد علامة بريئة للحظ السعيد والخير، وربما كانت روح البلطجة الصبيانية لأولاد المدارس أو ربما كانوا مجموعة من «النازيين الجدد».
ولكن الأهم بالنسبة لي هو التساؤل إن كان ذلك يعد دليلا أكيدا على استمرار وجود «الزميل النازي» بين طلبة المدارس مع استمرار نفس الأفكار المتناثرة في ثقافتنا الدينية والوطنية والقومية التي تشجع مثل هذا النوع من الأفكار الجميلة، أم أن سوء التفاهم البسيط، الذي وقع هناك وجعل الكثيرين يرددون وما زالوا يرددون أن ذلك الصليب كان إهانة للإسلام يعني أن الصليب المعقوف أصبح شكله غريبا بين العديد من المصريين، بينما هم أنفسهم تتلبسهم روحه السمحة وطموحه النبيل المندفع إلى الغاية دون تأخير إلى درجة نسيان أن من رسم الصليب لإهانة الإسلام  إما ولد اسمه صالح أو ولد آخر اسمه أحمد وبيدلعوه يقولوا له يا حمّو.

04 April 2013

الأزهر مسموما

هل نحتاج لتسمم مئات الناس لكي ننتبه أن السياسة عالقة في المربع الأول؟
وحتى عندما تتهدد أرواح الناس، لا يبدأ التساؤل عن مدى التفاوت بين ما ينفق من أجل الحرص على صحة الرئيس أو شيخ الأزهر وبين ما ينفق من أجل ضمان صحة مجند أو طالب مغترب في المدينة الجامعية أو أمان تنقل طالبات معهد أزهري (الأزهر أيضا كان حاضرا في حادث قطار أسيوط).
 لماذا لا نتساءل عن ذلك؟ لأن ذلك هو «النظام». ما لا يتم التساؤل بشأنه بصوت عال هو «النظام» المتفق عليه أو الذي يقنع به الناس ويخضعون له أو ييأسون من تغييره.
لماذا يبدو ذلك «النظام» بعيدا جدا عن أيدينا. لأن المربع الأول الذي يضم متاريس «النظام» لا يزال هو نفسه وإن تغير الرجال وأحيانا لم يتغيروا.
احتجاجاتنا لا تزال أمام هذه المتاريس في المربع الأول كل مرة. ويتوقف النقاش عند: هل ذلك يمس شرعية الرئيس أو شيخ الأزهر؟ وفي الواقع أن كليهما واقف في مواجهتنا خلف متاريس المربع الأول.
القيادي الإخواني محمد مرسي الساكن في قصر الاتحادية قصته الآن على كل لسان وفضيحته بجلاجل.  ولكن شيخ الأزهر هو البعيد غالبا عن مرمى الجلاجل لأسباب كثيرة.
 ولكنه متورط في نفس المربع. مربع الحفاظ على سلطته وعلى بقاء الأوضاع على ما هي عليه تحت لافتات «التغيير». وهذه فرصة جيدة لنتكلم عن معنى «الاستقلال» بعيدا عن رنين الكلمة.
الطيب في مواجهة الدعوة إلى استقلال الأزهر أجرى حوارات مع بعض الائتلافات الأزهرية، ولكنه أعد تعديلات قانون الأزهر في يناير2012  بالتشاور مع المجلس العسكري وحكومة الجنزوري وأصدرها المجلس العسكري وقت توليه سلطة التشريع قبل انعقاد البرلمان الذي بدأ عمله بعدها بأيام. قطع  ذلك الطريق على تيارات البرلمان وعلى الجدل المجتمعي من المساس بـ«مؤسسة الأزهر» وأيضا «قيادات الأزهر».
ولكن الطريق الذي تم قطعه هذه المرة لا يزال موجودا ومفتوحا لمرات أخرى، راجعوا فيديو برهامي وهو يشرح فقه الانتهازية السياسية في أفضل دستورعرفه العالم. لا يزال البرلمان يضع قانون تنظيم الأزهر ( أي استقلال؟) والرئيس يجب أن يوافق على تعيين أعضاء هيئة كبار العلماء بعد اقتراح وعرض من شيخ الأزهر بحكم القانون ( أي استقلال؟).
 ولكن في المرة الأولى لاختيار الهيئة، حصّن الطيب نفسه ونخبته القريبة عندما جعل لنفسه الحق، وفق القانون الذي شارك في إعداده، أن يختار هو كل أعضاء هيئة كبار العلماء. ولكن من أجل «منظر الاستقلال» أمر بتشكيل لجنة اختارها هو لكي تختار هيئة كبار العلماء.
امتعض الإخوان والسلفيون من متاريس أحمد الطيب لتحصين نفسه ورفاقه في قانون الأزهر، ومنحهم فقط تمثيلا شرفيا بوجود القرضاوي ورئيس الجمعية الشرعية في الهيئة. إلا أنهم أدركوا بعد مقلب الدستورية وحل البرلمان أنهم بحاجة لمؤسسة لكي تكون «متراسا» للمرجعية الدينية في مواجهة المحكمة الدستورية التي تحمي حريات المواطنين ومساواتهم. لأن العقدة هي في استخدام «الشريعة» لتشريع ما ينتقص من الحريات والحقوق أو يخل بالمساواة. ولذلك كان الإصرار على النص على مرجعية هيئة كبار العلماء في الأزهر فيما يخص الشريعة. (تيجي إنت بقى يا عدو الإخوان يا جميل تدافع عن مرجعية الأزهر ضد الأخونة!)
رغم كل أزماته الوجودية، فإن هاملت صلاح أبو إسماعيل كان من القلائل الذين رفضوا المشاركة في مهرجانات وثائق الأزهر مطالبا بالتمييز بين مؤسسة الأزهر وبين قيادتها الحالية، وكانت ملاحظته الجيدة أن هيئات أوسع مثل «مجمع البحوث الإسلامية» تعبر عن الأزهر أكثر من مكتب شيخ الأزهر الذي يدير لعبة التوازنات السياسية التي تدور في نفس المربع.
يمكننا أن نأخذ بنصيحة أبو إسماعيل، وبدلا من أن نتحدث عن «وسطية الأزهر» لنتحدث عن وسطية «قيادات الأزهر» التي أشرف الأمن على «فلترتها» لعقود لكي تمنع وصول الإخوان والسلفيين إليها.
 يمكن ساعتها أن نتحدث عن «تواؤم» لا «اعتدال». ولكن لكي نعرف الميل العام لأبناء المؤسسة الأزهرية. نحتاج لبحث كم عالما أزهريا في «الهيئة الشرعية للحقوق والإصلاح» الذراع الدعوية لتيارات السلطوية الإسلامية. وسيكون مفيدا أيضا أن نتأمل نتائج انتخابات الاتحادات الطلابية في الأزهر. التي اكتسحها بالكامل طلاب الإخوان المسلمين مع منافسة محدودة من طلاب الدعوة السلفية. أين الطلاب «الوسطيون» الذين يدرسون في الأزهر؟
يمكنك تخيل مستقبل مؤسسة الأزهر أو مستقبل قيادات مؤسسة الأزهر وهم يتواءمون مع «السلطة الجديدة». بعض أعضاء هيئة كبار العلماء بدأ التواؤم بقوة، وردد ما يمكن أن يضعه تحت طائلة باسم يوسف. والهيئة كلها تقوم الآن بتمارين للتواؤم في كل الأوضاع مع السلطة. الحكومة أخذت رأيها في المشروع الأول للصكوك، وغضبت الهيئة من مجلس الشورى لأنه تجاهل أخذ رأيها في المشروع المعدل للصكوك. فصالحها مرسي وأرسل لها المشروع. وفي النهاية الأزهر الذي ينأى بنفسه عن «الأمور الحزبية» اجتمع مع وفد حزب النور تحية له على إصراره على عرض المشروع على الهيئة.
 جدير بالذكر أن حزب النور قبل سنة في البرلمان المنحل تقدم بمشروع قانون لتعديل قانون الأزهر وحذف وصف الأزهر بأنه «المرجع النهائي». وسبحان مغيّر الأحوال والمصالح.
المهم أنه في وسط كل ذلك الإسباجيتي، لا تساؤل عن حقيقة استقلال المؤسسة وسط كل هذا التشابك مع عمل السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية، وعن سبب تضخم المؤسسة الأزهرية أصلا منذ عهد عبد الناصر في نفس الوقت الذي قام فيه بسلب أوقافها وحرمها الاستقلال المالي، وعن سبب خلق أطراف صناعية لجامعة الأزهر تقوم بتدريس الطب والهندسة وغيرها، وفي نفس الوقت قطع كل أذرعها الدعوية ومنح سلطة إدارة المساجد كلها لوزارة الأوقاف، وفي ظل هذا الوضع الرديء لا يشكو فقط الطلبة من سوء ورداءة الخدمات والتعليم ولكن يشكو أئمة الأوقاف أيضا - بالإضافة لضعف أجورهم - من شعورهم بالظلم من احتلال قيادات إخوانية - أو متحالفة مع الإخوان – كراسي الوزارة. في الوقت الذي ينشغل  فيه شيخ الأزهر وهيئة كبار العلماء بالعمل كمستشارين للحكومة والبرلمان، لا يملك أيهم أي اتصال ولا صلة رسمية بأي إمام أو خطيب في أي مسجد من مساجد مصر، التي يديرها الآن الإخوان وحلفاؤهم في وزارة الأوقاف.

01 April 2013

عن صهاينة مصر

«ما تتضمنه أحداث الفيلم من مشاهد أو معلومات يشير إلى أشخاص أو جماعات لا تعد بحال وثيقة أو مستندا أو قرينة تترتب عليها أي حقوق، وإنما هي رؤية المؤلف والمخرج التي لا تخرج عن إطار الإبداع الفني»  ختم وتوقيع: الرقابة على المصنفات الفنية
الصورة التي تحمل هذا النص هي أول ما ستشاهده في قاعة السينما التي تعرض الفيلم الوثائقي «عن يهود مصر» من إخراج أمير رمسيس.
بعدها مباشرة ستشاهد رسالة من صناع الفيلم تقول :«البيان السابق كما هو موضح أسفله صادر عن جهاز الرقابة على المصنفات الفنية التابع لوزارة الثقافة وبناء علي طلب من الوزارة بعد حصول الفيلم على ترخيص العرض وليس صادرًا عن أسرة الفيلم».
أدعوكم بشدة للذهاب إلى دور السينما ومشاهدة الفيلم المهم، دعما لتجربة عرض أفلام وثائقية في السينما، وأيضا لكي تعرفوا مصدر الذعر الرسمي والسياسي من فيلم وثائقي يتناول تفصيلة من تاريخ مصر.
الذعر لم يبدأ بالبيان الذي يعبر عن تخبط بين الخوف من حرية التعبير والنشر، وفي نفس الوقت عدم القدرة على اتخاذ إجراء قمعي. وهي الحالة السياسية العامة كما تلاحظون. ولكن ذلك التخبط عبر عن نفسه في بيان ينضح بالجهل، فيقول إن هذا الفيلم الوثائقي ليس وثيقة، وكأن قاعة العرض هي محكمة يخشى أن تتخذ إجراء بخصوص معلومات معينة يوثقها الفيلم استنادا لمراجع وشهادات. وفي نفس الوقت يفضح البيان نفسه وكأنه يريد أن يقول: أي ظلم وأي حقوق مهدرة يتحدث عنها هذا الفيلم فإن الموقف الرسمي هو الاستمرار في إنكارها وعدم الالتفات إليها.
ستخمن بعد مشاهدة الفيلم أن المشكلة تكمن في اكتشاف أن عددا من اليهود المصريين – الأغلبية منهم – لم يكونوا صهاينة ولا مؤيدين لقيام دولة إسرائيل وتمسكوا ببقائهم في مصر، وبعضهم كانوا نشطاء في صفوف اليسار من أجل التحرر الوطني والديمقراطية. وأن ما حدث مع كثير منهم هو اعتبارهم رغما عنهم صهاينة مؤيدين لدولة إسرائيل لمجرد أنهم يهود، ثم استخدام ذلك التزييف في الاعتداء الرسمي والشعبي عليهم. رسميا اعتدت دولة يوليو  على مواطنتهم ودفعت بعضهم للتنازل عن الجنسية وتوقيع تعهدات بعدم العودة إلى مصر مرة أخرى، وشعبيا كان التحريض عليهم من جانب الفاشية الممثلة في حزب مصر الفتاة وجماعة الإخوان المسلمين مما أدى لوقائع طردهم من بيوتهم والاعتداء على أملاكهم وأعمالهم. ووصل الأمر إلى القرار الرسمي بعدم الاعتداد بتحول بعضهم إلى الإسلام إذا تم ذلك بعد عام 1948. نعم، إكراه في الدين.
ربما تريد وزارة الثقافة أن توحي للمشاهدين بأنه من وحي الخيال أن القيادي اليساري المصري اليهودي الشهير هنري كوريل، الذي تم سحب جنسيته المصرية وطرده إلى فرنسا، قد أدلى بمعلومات مهمة عن العدوان الثلاثي على مصر إلى جمال عبد الناصر عبر وسطاء بشهادة ثروت عكاشة وزير الثقافة الأسبق وقتها، ورغم جنسية كوريل الفرنسية، فإنه كان مساندا للثورة الجزائرية ضد الاحتلال الفرنسي وتبرع بفيلا يملكها في الزمالك لتكون مقرا للسفارة الجزائرية في القاهرة.
هذه التفاصيل تنتمي للواقع غير المرغوب في اكتشافه وليس لخيال المؤلف والمخرج، تماما مثلما تنتمي شهادة القيادي الإخواني العريق علي نويتو، التي سجلها الفيلم وسجل ما تمتلئ به من ادعاءات وعنصرية وتحريض.
لا يحتاج المشروع الصهيوني إلا لهذه العنصرية ولهذا العدوان والظلم لكي يؤسس دولته التي تجمع هؤلاء المضطهدين، ولا تحتاج دولة جديدة تريد أن تكون وطنا قوميا لكل اليهود إلا أن تقوم الحكومات الجهولة، باسم القومية العربية أو باسم الإسلام، بنزع جنسيات اليهود من مواطنيها وطردهم لكي تكون دولة إسرائيل ضرورة قائمة على مظالم مستمرة لليهود. ورغم ذلك فإن الشهادات والمعلومات تقول إن معظم اليهود المصريين الذين تم سحب جنسيتهم ذهبوا إلى بلدان أخرى غير إسرائيل.
يحتاج المشروع الصهيوني أيضا إلى «أخلاق صهيونية» مقابلة. أخلاق تدعي الدفاع عن حق ديني ووطني وقومي وفي سبيل ذلك لا تبالي بمظلمة آخرين. بل تقوم بإنكار حقهم والتعمية على كل المعلومات التي تشير إلى سيرتهم ومظالمهم. تماما كما يحاول بيان وزارة الثقافة –بالتعاون مع الأمن الوطني العائد بقوة من الخلف- الذي أتخيل أن مسؤولين في دولة إسرائيل ومؤيدين للصهيونية في كل أنحاء العالم سيرحبون بالتأكيد بالاستلهام منه والضغط لنشر بيان مماثل قبل أي أفلام وثائقية عن القضية الفلسطينية.