22 June 2013

مصر: “تمرد” والبحث المتجدد عن بداية !


حملة توقعيات واسعة في مصر لسحب الثقة من الرئيس المصري محمد مرسي في 30 يونيو
“لقد كنا نتألم ونحن نقف وراء هذه القضبان نستمع إلى مرافعة ممثل الادعاء وهو يصفنا بما ليس فينا، فقد كنا نؤدى دورنا بإخلاص وأمانة لا نبغى إلا وجه الله تعالى ومصالح شعبنا العظيم. لم نكن نعمل لحساب النظام أو حزب أو فصيل سياسي، بل كنا نرفع راية مصرنا الحبيبة عالية خفاقة.. ويشهد بذلك القاصي والداني، وكنا نضع نصب أعيننا مصالح شعبنا العظيم”.
من كان يتصور أن يمتلك حسن عبد الرحمن -الرئيس السابق لجهاز أمن الدولة- شجاعة التفوه بهذه الكلمات أثناء محاكمته قبل أسبوع، بل وتنتهي المحاكمة بالحكم ببراءته.
الوصول إلى ذلك لم يكن مفاجأة كبيرة، فالتمهيدات لذلك كثيرة، منها:
أولاً: اختار الرئيس الإخواني وحكومته وسط الصراعات التي تموج بها الساحة المصرية أن يفتحوا جبهات لتغيير وتطهير المؤسسات الحكومية، ولكن فقط تلك التي تضم معارضين ومزعجين لسلطتهم، -لم يكن منها جهاز الشرطة-. وبشكل ما تركوه لكي يكون عونًا لهم في حماية “أمن الدولة” تحت القيادة الجديدة. وبعيدًا عن المحاسبة ورياح التغيير، عادت انتهاكات الشرطة ضد الناس، ومعدلات الموت في أقسام الشرطة تقترب من معدلاتها السابقة بالتوازي مع حملة لملاحقة المعارضين وحبسهم ومحاكمتهم.
ثانيًا: الرئيس الإخواني الذي يقول عن نفسه أنه كان “مرشح الثورة” أهدر حتى ما يمكن أن يستخدمه كرصيد رمزي للحظة الثورة الأولى، التي انطلقت في يوم عيد الشرطة نكاية فيها، وقال وهو يمدح يوم 25 يناير في حضرة رجال الشرطة أن ذلك اليوم العظيم في تاريخ مصر كان عبورًا ثالثًا و”كانت الشرطة في القلب منه”.
ثالثًا: عندما غابت أي رغبة من السلطة الجديدة لتطهير وإصلاح جهاز الشرطة، الأداة الأساسية لقمع النظام، بل وتفوق الرغبة في تملقهم حياء حفظ هيبة تاريخ اللحظة التي مهدت لهذه السلطة، فليس غريبًا ألا يحاكم رئيس الجهاز الأساسي المسئول عن إخضاع المجتمع وقمعه، إلا بتهمة “إتلاف مستندات”، وهي كانت التهمة التي ألقى أثناء محاكمته بها مرافعته الجريئة.
رابعًا: أنه في ظل وجود “تيار سلطوي إسلامي” قد ترك موقف الثورة إلى موقف التطلع إلى “السلطوية الإسلامية” في مواجهة “أعداء الإسلام”، وفي ظل خطابه الدعائي الذي يفتقر إلى الحد الأدنى من الأخلاق والاتساق، فالمآل أنه سيتم تجاهل كل ما سبق، وسيتم تحميل “القضاء الفاسد” كل المسئولية عن تلك المحاكمة وغيرها، وسيصرخ أن أجهزة الدولة تنقلب عليه وتتواطأ مع أعدائه.
ورغم كل مشكلات النظام القضائي في مصر، فإن القضاء لا يمكنه أن يحقق “عدالة انتقالية” بدون إرادة سياسية وترتيبات قانونية تنجزها قوة يمكنها أن تبدأ الحديث حقًا باسم “الثورة”، ويمكنها أن تفرض “الترتيبات الانتقالية” بقوة حركة الثورة على أعدائها، وبتوافق واسع بين أبنائها.
أزمة سلطة الإخوان في مصر أنها حتى الآن لا تقوى على فرض لحظة بداية باسم الثورة على أعدائها، بينما هي تخجل من “لحظة البداية” التأسيسية للثورة وتزوّرها.
“أزمة البداية” هي أزمة الثورات، وهي –وفق حنا أرندت– لا يمكنها أن تؤسس لجديد وتدعي أنها ثورة إلا مع قدر من العنف.
السلطة الجديدة إما أن تحتضن لحظة البداية وعنفها، وتكمل طريقها في تقويض القديم بانعطافات جذرية عن المسارات القديمة. وإما أن تحتضن القديم وتقنعه أنها لم تكن ثورة ولكن كان إصلاحًا محدودًا، وعلينا أن نستمر في طريقنا نفسه بدون انعطافات جذرية.
تيه الإخوان بين الخيارين أوقعهم في مهب ثلاثة تيارات:
أولها: امتلاك القديم لشجاعة البروز والحديث باسم مصلحة الوطن، ومحاولة إدانة “لحظة البداية” وعنفها، كما في شهادة رئيس الجهاز القمعي أثناء محاكمته ثم براءته. وكما في أمثلة أخرى كاشفة مثل أن تجري الآن محاكمة تبحث في “جريمة” فتح السجون التي كانت تضم معارضين معتقلين أثناء بدايات الثورة.
وثانيها: ضغط الحلفاء من أجل “لحظة بداية” تخص مشروع “التمكين”.  
الرواية المحببة للسلطويين الإسلاميين أن يوم 30 يونيو هو “ثورة القديم”، لكي يساعد ذلك في مواجهة “المتمردين” بعنف   واثق أكثر في جهالته.. لكن أدوات “القديم” ومواقعه هي الآن بالفعل في الحديقة الخلفية لسلطة الإخوان

تيه الإخوان وافتقارهم إلى “لحظة بداية” تدعم سلطتهم التي تدعي الحديث باسم الثورة أوقعهم من تحت سخط حلفائهم من السلطويين الإسلاميين الذين بدأوا يميلون أكثر فأكثر إلى لحظة عنف ضد المعارضين. لحظة يستجيب فيها الرئيس الإسلامي إلى هتافهم “اغضب يا ريٍّس. اضرب يا ريّس” ويبدأ التقدم نحو “مشروع تمكين إسلامي”.
ثالثهما: التمرد. فبعدما انفتحت شهية السلطويين الإسلاميين لمزيد من الخطوات في اتجاه “تمكين إسلامي” بدلاً من خطوات نحو تغيير جذري في بنية الدولة، وسعي لصيانة وتوكيد الحقوق والحريات، فإن خطط التوافق تنهار تدريجيًّا ويزداد الانقسام في الشارع. لم يعد ممكنًا التوافق بين من انفتحت شهيتهم للسير عكس اتجاه التغيير مع من لا يزالون يطالبون به ويضغطون في اتجاهه.
“أهل التمكين” الآن في السلطة يحتمون بعنفها بقوة القانون، ويتحامون في بلادة طالما اشتهرت بها الدولة المصرية في مواجهة المظالم ومطالب التغيير. فيفتح ذلك كله الباب لفكرة حملة “تمرد” التي تدعو لسحب الثقة من الرئيس إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، والتظاهر من أجل ذلك في 30 يونيو، ولكن الحملة تفتح الباب وراء ذلك أمام “تمرد” بالمعنى الأوسع على الإخوان واتجاه سلطتهم.
وعلى عكس ما يبدو، فإن الاستجابة لمطلب “تمرد” هو امتصاص للحظة ثورية محتملة، وفتح الباب أمام محاولة أخرى للبحث عن توازن ديمقراطي. بينما تجاهل المطلب هو فتح المعركة على مصراعيها أمام فكرة “التمرد” الأعمق. فتح المعركة بما يعني بحث الأطراف عن “لحظة بداية” أو لحظة عنف تخص اتجاه سير جديد.
إما لحظة انتصار تمكين إسلامي تطيح بما تبقى من قناع الديمقراطية الكسيحة أو تواصل ذلك في هدوء، أو لحظة انتصار لمقاومة ذلك التمكين من قبل أطياف “التمرد” المتعددة، وهي لحظة لن تصب في “انتصار” لطرف بعينه أو قوة سياسية بعينها. ولكن ستصب ربما في صيغة أكثر ديمقراطية وأكثر توازنًا بين القوى الأكثر تنظيمًا واحتشادًا، وبين المطالب والمظالم المتعددة خلف “التمرد” وقواه الاجتماعية التي تفتقر للتنظيم، ولكن لا تفتقد للحيوية والتجدد والعناد وروح المقاومة.
الرواية المحببة للسلطويين الإسلاميين أن يوم 30 يونيو هو “ثورة القديم”، لكي يساعد ذلك دعايتهم لمواجهة “المتمردين” بعنف واثق أكثر في جهالته. ولكن من كانوا في المواقع القديمة يبحثون الآن عن مكان في ركب “التمرد” و”التوازن الديمقراطي” المأمول الذي ستتقاسمه أطراف كثيرة ولن يمكن في سياقه الحفاظ على معظم أدوات النظام القديم القمعية والسلطوية والاحتكارية والمركزية.
ولكن أدوات “القديم” ومواقعه هي الآن بالفعل في الحديقة الخلفية لسلطة الإخوان، يدافعون عنها بعد عمليات الإحلال والاحتلال، أو بصفقات الموالاة، إنها خزينة سلاح “العنف الدولتي السلطوي” -في مفهومه الواسع- تجاه مطالب التحرر، ولكنها في نفس الوقت أحد مصادر قلقهم واضطرابهم. وهو ما يعيدنا إلى أول المقال، ويعيدنا إلى أزمة البحث عن بداية جديدة لا يتم التنكر لها وتزويرها.