26 January 2013

طريقة وحيدة للهروب من القصر







أعترف، مساء الخميس10 فبراير 2011 شعرت بالشفقة تجاه مبارك.
كنت آتيا من اجتماع دعاني إليه صديق، مع مجموعة من الشباب أعرفهم لأول مرة وينشطون سياسيا للمرة الأولى، كان الاجتماع لمساعدتهم في التخطيط لطباعة مجلة ومنشورات توزع ورقيا على الجمهور الأقل تعرضا للإنترنت، تدعوهم وتحرضهم لاستكمال الثورة، لا تراجع.

وصلنا خبر الاستعداد لبث خطاب لمبارك. نزلنا جريا إلى ميدان التحرير لنسمعه هناك. كان الميدان ممتلئا عن آخره. توجهت إلى مقهى أبحث عن مكان هناك. بعد فترة من الانتظار بدأ بث الخطاب. فرق كبير من ملامح مبارك في خطابه السابق بداية فبراير، وبين ملامحه الآن. صوته أيضا كان مختلفا. كأنما مرت عليه أيام في مستشفى تحاول عبثا وقف تردي حالته فلم تزده إلا إنهاكا
لم أستطع تبين مشاعري إلا عندما بدا من مضمون الخطاب ما يوحي أنه ليس خطاب تخلي عن السلطة، وبدأت الشتائم المنفعلة تقاطعه غير مبالية بوعوده وتطميناته لتعلن أنه لا أقل من تخليه عن السلطة. وانقسمت الشاشة إلى نصفين لأرى الأحذية المرفوعة في وجهه في ميدان التحرير.الشفقة ..
اتضحت لي مشاعري: هذا رجل مثير للشفقة، وهذه وعود وتطمينات رجل مثير للشفقة. ليست الشفقة هنا تلك الوصمة السياسية المعتادة من باب الإهانة. كانت فعلا شفقة إنسانية على رجل محبوس داخل أسوار السلطة ولا يتصور لنفسه مهربا منها. حسنا، ونحن سنساعده على ذلك بلا أدنى رحمة.
"إلى قصر الرئاسة!" خرجت مجموعة من أمام المقهى في مسيرة إلى قصر الرئاسة. المسافة بعيدة وكنت متعبا. فضلت الانضمام إلى مجموعة أخرى اتجهت لمحاصرة مبنى الإذاعة والتليفزيون، القريب من التحرير والمقهى.
أمام مبنى الإذاعة والتليفزيون على كورنيش النيل، على الرصيف البارد، جلست بجوار صديقة في مواجهة الأسلاك الشائكة ووراءها جنود الجيش الذين ينظرون إلينا بترقب وقلق، كأننا نحن من نقف فوق المدرعات نمسك البنادق.

فكرنا بصوت عالي:
- لوتنحى مبارك تنحى، من سيتسلم السلطة بعده؟
  • غالبا الجيش.
  • يادي المصيبة! سيتمسكون بها لفترة، ولو أجروا انتخابات طبعا سيتصدر..
  • نعم، غالبا الإخوان.
  • يادي المصيبة!
بالنسبة للبعض كان هذا الحوار كفيلا بجعلهم في صف أعداء الثورة، ولكننا بقينا حتى أول الفجر نناقش في حماس نافد الصبر كيفية التصعيد كما لو أن مدينتنا الفاضلة ستسود مع مطلع الشمس.
مع مطلعها بدأت أعداد المتظاهرين تتوافد لمحاصرة مبنى الإذاعة والتليفزيون فرجعت إلى البيت، نمت بضعة ساعات وأخذت حماما ثم نزلت وركبت تاكسي: “إلى قصر الرئاسة لو سمحت".
بالقرب من قصر الرئاسة نزلت وتمشيت مع الأصدقاء وتبادلنا الأخبار مع المجموعات الأخرى التي تحاصر المداخل المختلفة إلى القصر. ركبت تاكسي لأصل إلى أقرب مجموعة بجوار سور القصر. نعم كانت الحياة تسير حول القصر بشكل معقول والكل يتناقش عن مصير ذلك البائس ساكن القصر. في التاكسي سمعت خطاب عمر سليمان يلقي بيان التخلي عن السلطة وانتقالها للمجلس العسكري. نزلت قرب أسوار القصر واحتفلنا.
لم يمر وقت طويل، حتى بدأ مأزق السكان الجدد للقصر، لم يدم شعار "الجيش والشعب إيد واحدة" طويلا، وتابعت كيف بدأ هتاف "يسقط حكم العسكر" بين عشرات ثم مئات ثم مئات الآلاف ليهدر في شوارع وميادين مصر في يناير 2012.
المؤسسة العسكرية التي كانت عماد الدولة المصرية الحديثة، وكانت القصر الحقيقي للرؤساء منذ ناصر إلى مبارك، عندما أدار قادتها المرحلة الانتقالية للحفاظ على نفس هيكل وطبيعة مؤسسات هذه الدولة، كلما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، كلما اتسعت قاعدة المشاركة في حصارهم. بدأ يتضح لي أكثر فأكثر كيف أن الثورة تحيل القصور إلى سجون، وأن حالة ساكني القصور تتردى لتثير الشفقة أكثر فأكثر. وكلما اعتصم ساكني القصور بسلطتهم ورغباتهم السلطوية وتمسكوا بحقهم وصلاحيتهم في إدارة حياة الناس على مسافات متفاوتة من رضاهم وحريتهم وإرادتهم، فإن الناس يمكن أن تحيل أسوار القصر إلى أسوار سجن.
الفترة الانتقالية كانت "لانتقال السلطة" ولكن لم تقم "بتقويم السلطة" ولم يصبها خيال تفكيك الطابع السلطوي للدولة. مؤسسات الدولة المصرية التي بلورها أو أسسها الانقلاب الناصري السلطوي لا زالت على حالتها، والناس في الشارع لا يزالون على حالتهم يطلبون "عيش وحرية وعدالة اجتماعية". والأهم أنهم لن يقعدوا في بيوتهم في الانتظار بعد الإدلاء بأصواتهم في صناديق، إنهم بأنفسهم هناك في كل مكان يحاصرون أسوار السلطات جميعا ولا يستأذنون للاشتراك والتشارك في إدارة شئون حياتهم وفي احتلال مساحات حرية أوسع وانتزاع ضمانات أفضل للعدل.

بدا لي الحوار على الأسفلت أمام مبنى الإذاعة والتليفزيون يتحدث عن الترتيب المتوقع لسجناء القصر: الجيش، الإخوان.
هؤلاء الذين سيتداولون السلطة والقصر.سيبدأون مدركين لمأزق السلطة وسجن القصر وقت الثورة. وسيسعون مخلصين أحيانا للتوافق، وسيعلنون صادقين عن مخاطر تولي السلطة منفردين في هذا التوقيت المتأزم وفي مواجهة هذه التحديات الجسيمة.ولكنهم بدلا من تفكيك الأسوار، يتمسكون بطبيعة السلطة ويدعون الآخرين للتوافق معهم على دستور سلطوي وإدارة سلطوية. يدعونهم لمشاركتهم سجن القصر.
رغباتهم السلطوية تسبب الشقاق وتحول بينهم وبين الحركة في اتجاه الثورة، في اتجاه إزالة أسوار السلطة والقصر والتفكير في أوسع مساحات الحرية وأكبر توزيع للسلطات والمسئوليات وأكبر مساحة للتشارك،
في اتجاه تواضع فكرة السلطة لفكرة الحرية.
سيبنون أسوارا قديمة وجديدة لحماية تصورات الأكثر والأقوى وأحقيته في تشكيل حياة الناس بدلا من تركهم في ساحة الحرية الخطيرة ووسط التنوع الجميل المرعب الصاخب.
ربما تتزين الأسوار باسم الثورة، وبديباجات: الشرعية، الاستقرار، الهوية، الشريعة، الأغلبية، الصناديق.
ولكن المأزق يتكرر، ولا يتصورون بديلا عن مأزق السلطة إلا السلطة. كما تصور الرئيس محمد مرسي أن الحراك المتصاعد والمطالبات غير الخاضعة لسلطته هم مؤشر مؤامرة، وأن المهرب من المؤامرة هو إعلان دستوري يمنحه المزيد من السلطات وسرعة إنجاز الدستور بأي ثمن وبأي شكل ليستكمل بناء مؤسسات نفس الدولة، ليتمكن حزب الأغلبية من ممارسة المزيد من السلطات. لا مهرب من مأزق السلطة إلا إليها؟

عادت مشاعر الشفقة إليّ، وأنا أتوجه في مسيرة إلى قصر الرئاسة مرة أخرى عقب إعلانه الاستبدادي. الشرطة هناك كانت تعاني من الترقب والقلقمرة أخرى - كأننا نحن من يحمل السلاح. بعد احتكاكات طفيفة وسحابات باهتة من الغاز تبخرت سريعا، انسحبت الشرطة إلى شوارع جانبية.
وصلنا هذه المرة لأسوار القصرـ وسمعنا أن سيارة الرئيس هربت مسرعة قبل أن تتمكن حشود المتظاهرين من محاصرة كل مداخل القصر.
اشتريت عددا كبيرا من علب الإسبراي من مكتبة قريبة وأهديت بعضها لمن لا أعرفهم وكتبنا على أسوار القصر العديد من رسائلنا حتى بدا مشهد القصر جميلا ومثيرا للشفقة. وكانت الرسالة الأساسية: هذا سجنك لو احتميت به في مواجهة حريتنا.
غالبا سأتوجه بعد أيام، في 25 يناير 2013، مرة أخرى في مسيرة إلى قصر الرئاسة. لست مشغولا بالجدل عن الاحتمالات والتكهنات. ولكني ببساطة سأفعل ما اعتدت أن أفعله منذ سنوات، واعتاد آخرين فعله بغير حسابات كثيرة: سنحاصر بحريتنا هذا القصر وقصور أخرى لكي نساعد ساكنيها المثيرين للشفقة الذين يصرون على حبس أنفسهم بالداخل، ونعلمهم أن هناك طريقة وحيدة كريمة للهروب من حصار الثورة للقصر: لا مهرب من الحرية إلا إليها.


11 comments:

سناء said...
This comment has been removed by the author.
سناء said...

أولا أحيي نصك الرائع لثلاث أسباب أولها أن لغته عربية نظيفة لا تقتحمها عبارات اعتدنا ان نقرأها في نصوص المشارقة، ثاني شيء هو تناولك الرائع و الذي سافر بعمق انساني مرهف متسلسل عبر محطات الثورة المصرية، و آخر شيء أعجبني جدا هي الجرعة الانسانية في النص التي نحسها و تدركها انسانيتا

كانت و لازالت لدي قناعة ان تخلي
الناس على قيمهم الانسانية هو أصل الفساد الذي نعيشه في ربوع أمتنا العزيزة

أحيي نصك

مرحبا بك في طنجة كذلك

كنت هنا

Anonymous said...

اسلوبك ارقى كثيرا عندما لا تكتب في بوابه المصري

عمرو عزت said...

أهلا لاليور دي لاطلاس
شكرا لاهتمامك. وسعيد ان النص اعجبك

كنت اود زيارة الصويرة أيضا لكن لم أتمكن لضيق الوقت
ولكن "ملحوقة" كما يقول المشارفة المصريون :)
تحياتي لك

Anonymous said...

I know it is not the right place (or the time) to ask this question.
but
it is been almost a year since your brother wrote something on his blog
http://elgha2ebat.blogspot.co.uk/

is he alright?

Anonymous said...

Dо уou mind if I quote a few of уоuг articleѕ
as lοng aѕ I ρrοvidе сгеdit and
ѕouгces bаck to your blog? Му blog is in the exact sаme niсhe аs
yours and my usегs wοuld reаlly benеfit fгοm ѕomе of thе infoгmatіon you present hеre.
Plеase let me knoω іf this alright with уou.
Τhаnks a lоt!

Mу wеb-sіtе :: payday loans

Anonymous said...

If уou ԁeѕire to gеt a good deal fгom this рaгagraph then you have to applу such techniques to your won
web sіte.

Review my webpage ... payday loans

Anonymous said...

Toms Shoes For You With Fashion StyleTerrasoles shoes are known for providing warmth and comfort in every season and are completely water-proof. Available in versatile and attractive designs this shoes has been preferred by most of the people, as it best understand the feet requirements and are able to provide comfort to feet after a long hectic day. Wearing Terrasoles shoes removes one walking stress as most of the time people dont even realize on the amount of extra walk they have done. This shoe really eases the walking stress and provides complete comfort to feet while walking.[url=http://www.cheaptomsbuy.com]Cheap Toms[/url] The brand started of a thought in the mind of the founder Blake Mycoskie which was ignited in his mind when he saw poor children from the villages of Argentina who were totally bare feet. Due to this reason, these children usually got infected by certain diseases which were present in the soil. Blake felt the danger the children were facing and hence created a company around the whole concept of social entrepreneurship.1. Save Money: There is a huge demand in the market owing to the Toms coupon code. This is a perfect situation for the company, children in need and surely the customer too. The money saved can be used to upgrade the shoes wardrobe fast and keep a pace with the changing season trends. You don't have to worry about the monthly budget with the Toms Shoes coupons, as they let you save a great deal of money. [url=http://www.onlinetomsoutlet.com]Toms Shoes Outlet[/url] Visa 2. Easy to use: The Toms coupon code is very user friendly. You need not visit any special counter or go the shop in person. All you need to get the discount is to enter the TOMS coupons code during check-out process when you purchase the shoes online. [url=http://www.tomsfans.com]Cheap Toms[/url] NO! TOMS is now also selling clothing & accessories. All purchases of TOMS Clothing and TOMS accessories also support the One for One mission. Hearing the word TOMS shoes sketches in minds a picture of a shoes with colorful and bright patterns as well as a brand with a purpose. The brand is founded by an entrepreneur from Texas, Blake Mykoskie who was one of the contestants in the second season famous TV reality show Amazing Race. The whole idea of establishing a business on the foundation of social entrepreneurship was ignited in the mind of Blake when he observed children with bare feet somewhere in the undeveloped area of the country Argentina.
Relate Post
[url=http://www.pixieboard.com/archives/324#comment-7512]toms sale high quality for you discount online[/url]
[url=http://www3.jkl.fi/keskustelu/posting.php?mode=post&f=2&sid=bd203c6d2fc3c21611446c5f4fb1f5ef]toms online high quality for you discount online[/url]

مملكة حواء said...

تابعوا معانا كل جديد فى عالم حواء
منتدى مملكة حواء

Anonymous said...

Bright reds, mixed with rich browns or beautiful soft greens coupled with deeper shades of emerald green or
even beautiful butterscotch yellows are perfect options if you
need just a pop of color. Because a pearl farmer wants to create the highest quality
of pearl every time, it can be an exhausting and drawn out process, but if you are a pearl aficionado you will certainly appreciate that it
takes time produce excellence. Have your necklace design
embrace your creation with carefully chosen color and balance.


my web page ... mumbai.socialinetworks.com

Anonymous said...

Certification is indicated by a seal from the Juvenile Products Manufacturers Association- JPMA.
The same is the case with excess protrusions in the chassis of the system, which must also have a high-quality mattress.
The ones that do are typically not comfortable
for either you or your babies.

Here is my blog; bedding