25 November 2012

تخاريف الديكتاتور المخبول

يقول الديكتاتور المخبول إنه اكتشف ابتكارًا جميلاً في كتاب يسمى «الاشتراكية»، فيه يعمل الكل عند الحكومة وتلملم فيه الحكومة كل الإنتاج. وعندما سألته حرمه السيدة الأولى: «وبعدين؟» يقول إنه معجب بهذا الجزء فقط من الكتاب وسيطبقه.
ما سبق مشهد شهير من مسرحية «تخاريف» التي كتبها لينين الرملي وأخرجها وقام ببطولتها محمد صبحي، وتعرض هذا الجزء من المسرحية تحديدًا لقصقصة كبيرة من الرقابة وقتها تحاول تخفيف الملامح المشتركة بين الديكتاتور المخبول ومبارك وأسلافه، ولكن الرقابة بالطبع لم تعتبر ذلك موجهًا مباشرة ضد مبارك، ليس لأنه كان ديمقراطيًا، ولكنه كان – لحسن الحظ - أكثر بلادة وفقرًا من أن يكون ديكتاتورًا على شاكلة الديكتاتور المخبول، رغم أن غيره يحاول الآن، وبالطبع لا سقف للطموح البشري والإنسان يصنع المعجزات.
ولكن الشاهد أن ذلك المشهد الساخر لا يلخص فقط التخريف بخصوص فكرة «الاشتراكية» لكنه يلخص التعامل السلطوي مع تاريخ الأفكار السياسية جميعًا. هناك جانب يعجب السلطة ويزيدها تكريسًا، وهناك جانب يقلقها ويقيدها ويلقي عليها مسؤوليات ويضعها أمام تحديات ويفتح للناس أفقًا لمحاسبتها وتغييرها.
الأمر نفسه ينطبق على أفكار مثل «الثورة» و«الديمقراطية». وربما يكون ذلك كاشفًا لكثير من الجدل السياسي الدائر الآن.
يمكنك أن تلاحظ ببساطة في خطاب السلطويين ومن هم في السلطة، عادة، كيف أن كلمة «الديمقراطية» يمكن أن تحل محلها تعبيرات «إجراءات الانتخاب والتصويت وصلاحيات الأغلبية»، في حين أنهم يغضون الطرف عندما توجه الاعتراضات إليهم باسم «الديمقراطية» التي هي في الأصل حقوق وحريات أساسية وضمانات للتوازن والمحاسبة وتوزيع السلطة تحاول الاقتراب من فكرة أن «الشعب كله» يحكم.
من أول لحظات ثورتنا بدا أن المشاركة الواسعة المتنوعة هي سمة هذه الثورة. لم يستطع تيار أن يدعي للحظة أنه يمثلها ليمارس باسمها شرعية ثورية. ولا حتى نجحت محاولات التوافق بين عدة تيارات أن تدعي ذلك. ولذلك كانت اللحظات المأزومة تحت حكم العسكر التي فشلت محاولات تجاوزها ببديل ثوري، وكان المسار الذي فشلت بدائله هو إدارة العسكر للانتقال الديمقراطي، بقبول ورضا من قوى وبمقاومة عنيفة من قوى أخرى.
بعد انزواء دور العسكر مع بدء الممارسة السياسية وأولى خطوات الإجراءات الديمقراطية يبدو لكل مبصر أن الجدل السياسي تحكمه في معظم الأوقات حالة من الاستقطاب العنيف. موضوعه الأساسي هو الانحياز مع أو ضد تيارات السلطوية الإسلامية، وخاصة الإخوان المسلمين.
مشروع تيارات السلطوية الإسلامية يرى الثورة ثم الديمقراطية مجرد فرص لإزاحة «استبداد سابق» لتفرض «الأغلبية» من مؤيديها قيودًا ومرجعيات لا يرتضيها كل الناس بينما يتوجس المشروع بشكل عام من الحريات وحقوق الإنسان. ويرى مشروعهم في الديمقراطية إجراءات تمكّن «الأغلبية» ذات البعد الطائفي من فرض رؤيتها في كتابة الدستور وفي غيره.
بسبب تلك الملامح، فإن أي مبصر لم تحجب عنه السلطة نور البصيرة سيرى كيف أن مجرد محاولة الدعاية باسم الثورة في الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة فرضت على «المرشح الإسلامي» أن يقوم بالكذب والخداع والنفاق – الذي سيظهر فيما بعد – من أجل صنع صورة لتوافق قوى الثورة حول المرشح الأقرب لها.
كان مؤشرًا أن النتيجة المأزومة بمثابة إنذار إليه وإلى جماعته بأن ممارسة السلطة باسم الديمقراطية يجب أن تكون في توازن مع كل ضمانات المراجعة والمحاسبة وفي توازن مع رغبات تنوعات الشعب الذي هو مصدر هذه السلطة، لأن إجراءات الديمقراطية التي أتت به بالكاد لن تقف على أرض لو أن قطاعات واسعة من الشعب، مصدر السلطات، ظلت على عدم رضاها وتوجسها من مشروعه، ولأن نصف الناخبين تقريبًا - بعد انكشاف الخداع والكذب في الدعاية الانتخابية ووعودها - صارت لا تثق به وهي تتوجس أصلاً من مشروعه السياسي التسلطي.
ولكن لأن الخبل الديكتاتوري الذي صوره لينين الرملي ومحمد صبحي ليس نكتة بخصوص شخص مريض، ولكنها سمة في النزوع السلطوي. فإن محمد مرسي وجماعته وحلفاءهم من السلفيين لم يكتفوا برؤية الجوانب السلطوية فقط في الإجراءات الديمقراطية كلها من انتخابات وتشريع وصياغة مشروع دستور، لكنهم في تمادٍ للخبل السلطوي انتهكوا هذه الإجراءات الديمقراطية وقرروا تمرير رغباتهم السلطوية باسم الثورة! وعبر قرارات ثورية تعلن نفسها قرارات غير قابلة للمراجعة ولا المساءلة ولا الطعن!
ما وراء الخبل السلطوي الذي يحاول أن يكون ثوريًا هو ذلك الضيق من وجود سلطات تنازعه فحسب. حتى فكرة القصاص ومحاكمات قتلة الشهداء كأي فكرة سياسية يمكن أن يجد النزوع السلطوي فيها مدخلًا، فالرئيس لا يمكنه أن يطهّر مؤسسة الجلادين بإجراءات ثورية جذرية أو يعيد هيكلتها لأنه يحتاجها في مشروعه لحفظ الأمن وإعادة الاستقرار وكبح «المظاهر الثورية» في الشارع لكي ننتقل إلى مرحلة العمل والإنتاج ودولة المؤسسات، كما في خطاب الإخوان الإصلاحيين طوال الوقت.
وجود وجوه التكنوقراط من الحزب الوطني ومجرمي الداخلية في حكومة الإخوان لا يضير الإخوان السلطويين، وما داموا تحت تصرفهم وسلطتهم، وحتى لو كانوا من المسؤولين سياسيًا وعمليًا عن دماء شهداء الثورة فبإمكانهم أن يعلنوا التوبة ويشاركوا في مشروع النهضة، ولكن أمثالهم في سلطة القضاء الذين ما زالوا خصومًا للإخوان ويعملون بالتوازي معهم يجب تقليص سلطاتهم، ويمكن الاستناد لعلاقتهم بالنظام السابق والمتاجرة بفكرة القصاص ودماء الشهداء لبعض الوقت، وفي سبيل ذلك لا مانع أيضًا من استعادة المتاجرة بالثورة والقرارات الثورية حتى لو ضحى ذلك بالأمن والاستقرار وبالممارسة الديمقراطية ودولة المؤسسات وأعاد المظاهر الثورية إلى الشارع.
وما المانع؟ ذلك هو الجزء الذي أعجب الديكتاتور المخبول من كتاب الثورة.

22 November 2012

ولماذا لا نثق في الرئيس؟

هناك اقتراح جميل من مؤيدي الإعلان الاستبدادي الذي لفظه مرسي بكل بذاءة في وجوهنا قبل أيام. الاقتراح هو أن نثق بأن تمتع الرئيس بصلاحيات مطلقة لفترة مؤقتة لن يدفعه لاتخاذ أي إجراءات تمس حقوق وحريات مواطنين أو أي قرارات قمعية ضد معارضته.
هذا الاقتراح الجميل اقتراح صادق فعلا، أشعر بصدقه فعلا لأن حدسي الشخصي يخبرني كيف أن الأصدقاء الإسلاميين من مؤيدي مرسي يثقون به فعلا ويحبونه فعلا ويدعون الله أن ينصره على معارضيه الذين لا يثقون بهم.
ولكني لا أعتقد أن ثقتهم به مبنيّة على أنه مثلا شخص معصوم لا يخطئ. لا يمكن أن يخطر على بالي أنهم يفكرون بهذه الطريقة.
إذن عدنا نستبعد هذا الاحتمال. ربما تنبني ثقتهم في الرئيس مرسي لأنه فرع من ثقتهم في «الديمقراطية» التي أتت به. ولكني أعتقد أن الديمقراطية بالأساس حكم الشعب، ليس لأن ممثلي الشعب هم نسخة متطابقة مع أحلام وأفكار كل مواطن، ولكن لأنها تضمن الفصل بين السلطات وتوازنها عبر مراقبة كل سلطة للأخرى، ويحاول أن يمنع ذلك انحراف ممثلي الشعب أو استبدادهم بالرأي والقرار. ويعطي لمعارضي كل سلطة أن تكون لهم فرصة التظلم واللجوء لسلطة أخرى. الطعن على القرارات الإدارية للسلطة التنفيذية أمام القضاء الإداري، والطعن على عدم دستورية القوانين أمام المحكمة الدستورية. محاسبة البرلمان للسلطة التنفيذية. قدرة الرئيس على الدعوة للاستفتاء وحل البرلمان، وقدرة البرلمان على التشريع فيما يخص السلطة القضائية لإصلاحها أو تعديل مسارها. واشتراك الرئيس في اختيار أعضاء الهيئات القضائية.
الإخلال بأحد جوانب ذلك هو إخلال بفكرة الديمقراطية وبالضمانات الأساسية للديمقراطية بأنها لا تنتج استبدادا.
فالديمقراطية شأن القانون محاولة للتعاقد الجماعي بخصوص الحفاظ على حرياتنا وحقوقنا ومصالحنا جميعا، والتعاقد الأساس فيه هو الضمانات وليس الثقة. الثقة هي بوابة الاستبداد وتسلط الزعماء والجماعات والأوصياء على الناس.
ولكن ربما يبني أصدقائي الإسلاميون ثقتهم في الرئيس لأننا ما زلنا في بداية بناء الديمقراطية وما زلنا من أجل ذلك في معركة مع بقايا النظام الفاسد ومنه «القضاء». والرئيس في رأيهم في معركة مع «القضاء» لأنه مليء برجال ساندوا النظام السابق ولأنه يخطط لمؤامرات انقلابية ضد الشرعية الديمقراطية ولأن القضاء يتسلط ويستخدم سلطته بشكل جائر ومعاد لاختيارات الناس وفق الديمقراطية.
أنا أعتقد فعلا أن القضاء ككل مؤسسات الدولة فيه فساد وأنه استخدم سلطاته بشكل سياسي في أوقات كثيرة، ولذلك أنا لا أثق تماما في مؤسسة القضاء مثلما لا أثق تماما في إدارة الرئيس محمد مرسي.
الرئيس لم يستخدم صلاحياته وفق الديمقراطية لكي يتجه لإصلاح القضاء ولكنه استخدم صلاحية تتجاوز الديمقراطية في إهدار سلطة واستقلال المؤسسة القضائية كلها في مواجهته. وبعض الهيئات القضائية التي شارك مرسي في تعيين أفرادها مثل محكمة النقض ومجلس القضاء الأعلى تعارض إعلانه.
كما أن مبرراته في معركة القضاء ليست نزيهة وتدعو للشك والريبة لا الثقة. فهو يعمل في حكومته مع بعض من رجال النظام السابق ثم ينتهك سلطة القضاء لأنهم ساندوا النظام السابق.
 وهو يحدثنا عن مؤامرات لا إثبات لها كما كان يهددنا النظام السابق بأن معارضته وراءها مؤامرات ومخططات خارجية للفوضى. وقدّم عدم ثقته في الناس الذين انتخبوه ديمقراطيا وخوّنهم واعتبر أنهم سيساندون انقلابا على سلطة انتخابه.
فهو أصلا مارس التخوين مع المحكمة الدستورية العليا وربما المؤسسة العسكرية التي يفترض أنها تابعة للرئيس مرسي ضمن سلطته التنفيذية ومارس تخوين الشعب والقوى الثورية التي افترض أنها ستجتمع كلها ضده وضد الثورة والديمقراطية وتعيد المجلس العسكري للحكم، وفق المؤامرة التي يتحدث عنها الإخوان.
الرئيس في قراره وإعلانه الاستبدادي يعلن عدم ثقته إلا بجماعته ومؤيديها وحلفائها من الإسلاميين. وهو حتى في اتخاذا القرار خان الديمقراطية وخان كل رجال إدارته وحكومته وهيئاته الاستشارية والمعاونة، التي من المفترض أن تتشارك حتى ديمقراطيا لكي يمثل تشاركها في القرار ضمانة أولية للديمقراطية.
 أعضاء الحكومة والمستشارون والمساعدون يتخبطون الآن بين الدفاع جزئيا عن الإعلان الدستوري ورفضه ومحاولة التحليل والفهم والتفسير أصلا، بينما كان من المفترض أنهم شركاؤه في القرار من الأساس. كيف يمكن أن تثق في رئيس لا يثق في مستشاريه وكيف تدافع عنه بحجة الديمقراطية بينما هو يهدر أساسها الأول. فلا هو يستشير مستشاريه ولا يستعين بمساعديه ولا يشارك حكومته الحكم.
لا يتبقى أمامي إلا أنهم يثقون في المشروع السياسي الإسلامي للجماعة التي ينتمي إليها الرئيس. صحيح هو بالنسبة للسلفيين مشروع أقل سلطوية من رغباتهم ولكنه خطوة على الطريق. ولذلك فهم آمنون مطمئنون – مع تحفظات -  أنه لن يظلمهم ولن يضرهم مهما استخدم سلطته في صراعاته السياسية وفي تجاوزه للتشارك والتشاور وفي تجاوزه للديمقراطية فكرة وتطبيقا وفي استهانته بمؤسسات الدولة التي من المفترض أن يمارس عمله من خلالها وفي التوازن معها، بل في تخوينه للكل واعتبارهم مستعدين للانقلاب على الثورة والديمقراطية إلا إياهم!
مبررهم للثقة فيه وفي مشروعه الذي يجعلهم يستحلون القفز على كل شواهد التخوين والفشل والاستهانة وإهدار حق غير الواثقين في مشروعه السياسي في محاسبته (هذا هو تعريف المعارضة والمعارضين )، هو ما دعاني ويدعوني لتسمية مشروعه ومشروعهم بـ«المشروع السلطوي الإسلامي».
ما يحدث الآن في الشارع هو مشهد واضح للانقسام. بين من يثقون في «المشروع السلطوي الإسلامي» وبين من يعارضونه ولا يثقون به ويعتبرونه تهديدا لحريتهم وحقوقهم ولضمان استمرار الديمقراطية ويعتبرون الإعلان الاستبدادي إعلانا فجا صارخا وبذيئا عن نوايا هذا المشروع المعادية للديمقرطية والحرية.
هناك مخرج اسمه «العودة للديمقراطية» التي تعني التشارك وضمان الحريات والحقوق أولا والنزول عن الرغبات السلطوية وأولها الإعلان الاستبدادي البذيء. وهناك مخرج آخر يقود إلى ساحة صراعنا لا اتفاقنا اسمه أن تستمر في الثقة في الرئيس.

21 November 2012

من «محمد محمود ليه؟» إلى «محمد محمود كمان وكمان»

هناك بالتأكيد رغبة مشروعة في معرفة من هؤلاء الذين ما زالوا يتظاهرون حول محيط وزارة الداخلية وماذا يريدون بالضبط، ومن بدأ الاشتباكات و«إيه اللي وداهم هناك أصلا؟» إلى غير ذلك من الأسئلة المهمة.
كل تلك الأسئلة ستضاف إلى سجل الأسئلة العويصة المعقدة التي تبدأ بماذا حدث بالضبط يوم 28يناير 2011التي سيحاول التاريخ الإجابة عنها وسنسمع بالتأكيد بعض المحاولات الجادة للإجابة وسط ركام كبير من الكلام الفارغ.
ولكن حتى ذلك الحين ورغم التقدم الكبير في وسائل الاتصال وفي ظل كل هذا العدد من وسائل الإعلام والمدونين فإنه تتعذر الإجابة حصرا من كان هناك وماذا يحدث. بل يزداد الأمر تعقيدا عندما نعرف أن من كان هناك أو لا يزال لا يمكنه الإجابة بدقة عن هذه الأسئلة، أعرف ذلك لأنني كنت هناك في لحظة ما ولا أستطيع الإجابة بدقة مثلما كنت هناك – في مكان ما  - يوم 28يناير ولا يمكنني أيضا أن أجيب بدقة، رغم أنني أفكر من ساعتها.
ربما يكون ذلك ما يسمى «ثورة». أن يخرج صانعوها والمشاركون فيها عن السيطرة ولا حتى القدرة على الإحاطة بكنههم وهويتهم وأغراضهم التفصيلية. يمكن الحديث عن «ثوار» ولكن لا يستقيم عادة الحديث عن «الثوار» حصرا وإحاطة، وبالتالي فالكلام عن «غير الثوار» – الموجودين هنا أو هناك المتآمرين ضد «الثورة»- هو من محاولات السيطرة والإحاطة والادعاء والحصر، وهي المحاولات التي عادة ما لا ترتضي حالة «الثورة» بما هي عليه: حالة الهدم.
حالة الهدم التي بدأت فعليا منذ 28يناير ليست طاهرة ولا عمرها كانت طاهرة. بل «ما حدث» تضمن أيضًا، بخلاف العدوان المجيد على حشود الشرطة وحرق مقارها ومقر الحزب الوطني، فوضى شملت إزهاقا لأرواح وتخريبا لممتلكات وتعطيلا لمصالح وتهديدا – حقيقيا – لسلامة وأمن الناس.
ولو أن هذه الثورة قد فشلت في خلع مبارك لكان تم الالتفاف عليها بتمجيد بعض شباب الشفيق على أنهم «ثوار 25يناير» والتنكيل بكل من له صلة بلحظة بدء الهدم الثوري فعلا من 28يناير أو له شبهة صلة بذلك، كما هي عادة الشرطة التي ستتولى مهمة الحصر والتنكيل.
ولأن الشرطة  تحديدا هي التي تتولى مهمة الحصر والتنكيل وكل ممارسات الإكراه بالقوة، كما هو معروف في الدولة الحديثة، فإن كل قرار وكل ممارسة للسلطة عبر خطط وقرارات وقوانين لن يتم إنفاذها، لتمارس الدولة السيادة، إلا بشيئين، رضا الناس وقبولهم بهذه السيادة وما يصدر عنها، وإلا تتولي الشرطة بالقوة فرض تنفيذ ما حاول بعض الناس عدم تنفيذه لأسباب مختلفة ربما كان من بينها عدم رضاهم.
لذلك من الطبيعي عندما يتناقص رضا الناس عن السلطة وعن ممارساتها فإنهم يفكرون في طرق كثيرة للاحتجاج على ذلك وتغييره وعندما تؤدي هذه الطرق للاشيء فإنهم يجدون عدم رضاهم وجها لوجه أمام مهمة الشرطة.
هذا لا علاقة له إطلاقا بمن يرتدي بدلة الضابط ومن يحمل سلاحه، هذا ما يحدث عادة.
وعلى ما يبدو فإن بعض الهدامين و«غير الراضين» عن عمليات ترميم وتجميل النظام قد أتوا للاحتفال بذكرى مذبحة محمد محمود وتذكروا جميعا أن نفس المجرمين ما زالوا يعملون في جهاز «مقاومة عدم الرضا» ولم يحاسب منهم أحد على ما سبب «عدم الرضا» سابقا بل تمت ترقية «مجرم» منهم ليصبح «وزيرا في حكومة رئيس الثورة».
ولعلك تلاحظ معي في الجملة السابقة ذلك التناقض الكبير الذي يعكس الادعاء والاحتيال والصفاقة وانعدام الحياء. وكل تلك الأشياء تستثير في النفس عدم الرضا وتستحث الهدامين – على الأقل -  على محاولة إهانة الجهاز الإجرامي. وذلك بالطبع يسوء الكثيرين من محبي الاستقرار لأن الجهاز الإجرامي نفسه مسؤول عن حمايتنا. سبحان الله. ولذلك أمام هذه المعضلة فإننا أمام اقتراحين:
الاقتراح الأول: أن يستجيب هؤلاء، الذين يديرون باسم الثورة، لمطالب الثورة في الهدم، وأولها هدم إجرامية الجهاز الإجرامي والتفكير في بديل جديد لحمايتنا غير المجرمين أنفسهم. ذلك بالطبع يتطلب بعض الخيال في بناء البديل. وإن ندر الخيال فلا أقل من أن يتوقفوا عن منح كبار المجرمين الذين أفلتوا من المحاكمات مناصب قيادية في الجهاز الإجرامي في محاولة لإبداء حسن النية والتجاوب مع عدم رضا الناس عن الإجرام.
الاقتراح الثاني: أن يعجز الخيال عن التجاوب مع عدم الرضا بخيال آخر للبناء بما يحقق الرضا فيسود المنطق البسيط العقلاني المتزن.. أن المجرمين أحق بقيادة الأجهزة الإجرامية. هذا واضح.  وما على الحكام الجدد إلا أن يفرحوا ببدلة الضابط والاستعانة بــ«هيئة كبار علماء الثورة» من التيارات المساندة للنظام الجديد، للمشاركة بعلمهم الفائض ومعرفتهم المحيطة في الإجابة عن الأسئلة المشروعة التي بدأ بها المقال: «من اللي هناك دول؟» و«إيه اللي وداهم هناك؟». والإجابة دائما وبالطبع هي نفي علاقة هؤلاء الهدامين بالثورة ثم حصرهم وتعدادهم وتبيان أنهم بلطجية وفلول وكارهون للثورة والإسلام ومدفوعون من الخارج وغير ذلك من الكلام الفارغ  المعتاد الذي سيقوم الجهاز الإجرامي بالتحرك في ظلاله.
وعلى الوارثين الجدد للأرض أن يحمدوا الله أن خيالهم لم يسعفهم لهدم الجهاز الإجرامي بل قاد إلى عمليات ترميم وتجميل لم تمس جوهره لأنهم يحتاجونه الآن لردع طاقة الهدم بدلا من الاستجابة والخضوع لها والاضطرار إلى خيال بناء بديل جديد. والله أكبر ولله الحمد

17 November 2012

إنذار للأئمة الإصلاحيين الوارثين للبؤس الاجتماعي

«الإهمال الجسيم تعاقَب عليه جهة الإدارة العليا متمثلة في إدارة السكة الحديد وفي الوزير المختص وفي رئيس مجلس الوزراء». هكذا قال محمد مرسي عام 2002في البرلمان في استجوابه الشهير حول حادثة قطار الصعيد.
ويبدو لي أنه كاد يقول «ورئيس الجمهورية»، لولا أن الحدود وقتها كانت لا تسمح عادة إلا بتحميل الوزراء المسؤولية وعدم المساس بالرئيس مبارك، كما أن الإخوان كعادتهم كانوا لا يحبون المساس بشخص الرئيس مبارك، مؤكدين دائمًا أنهم دعاة إصلاح لا ثورة، وربما تكون هذه هي المشكلة.
الآن أمام حادث مماثل لا يقل بشاعة في أسيوط، راح ضحيته عشرات الأطفال، ولا يبدو حتى أن سقف استقالة الوزراء ورئيسهم ولا حتى رئيس الجمهورية حل.
أحد جوانب هذه الكوارث المفجعة لا يمكنني أن أراه إلا بعضًا من ملامح أحداث الحياة المؤسفة التي يمكن أن تتأرجح بها الرعونة الإنسانية لسائق أو عامل ولا حيلة لضبطها تمامًا، ولكن هي في جانب آخر جانب من البؤس الاجتماعي الذي يسمح للرعونة والإهمال والاستخفاف بالحياة والتصالح مع احتمالات أخطار محدقة بأن تواجهنا بشكل يومي.
وهذا البؤس لا يبدو لي أن مواجهته مجدية على الطريقة الإصلاحية بتحميل المسؤولين التقنيين مسؤولية الكفاءة والإدارة. ذلك البؤس الاجتماعي الذي يجعل الموت والمرض والإهانة والإذلال احتمالات يومية وسمة نظام لا يبدو لي أنه يمكن أن يتغير فقط بنقاشات حول الكفاءة والمسؤولية.
الاعتقاد بأن «النظام السابق» كان نظامًا شيطانيًا يكره الوطن والإنسانية، ويتعمد كل رجاله الإهمال وعدم الكفاءة، وأن الفساد هو مشكلته الوحيدة، هو فرضية تثبت فشلها عندما لا يجد رجال النظام الجديد أنفسهم مضطرين لنفس خيارات النظام السابق والخضوع لسقفها.
ليست المشكلة الوحيدة في أن رجال النظام الجديد تصالحوا مع رجال النظام القديم الذين بدورهم كانوا متصالحين مع الفساد والاستبداد السياسي. ولكن المشكلة أن رجال النظام الجديد والقديم معا يفتقرون للخيال الثوري الذي يمكن أن يسلك طرقا جديدة.
 «ما عملناش ثورة علشان نخلع مبارك. إحنا خلعنا مبارك علشان نعمل ثورة». هكذا كانت تقول اللافتة التي كانت حملتها صديقة يومًا لتعبر عن فكرة الثورة، كما لا يزال يريدها كثيرون وكما لا يريدها كثيرون احتلوا كراسيهم ولم يعد لديهم وقت للخيال.
من أعلى الهرم السياسي، حيث يكتب الدستور وفي أدناه، حيث يتفاوض عمال وموظفون ومهنيون على مطالبهم الاجتماعية وضمانات أدائهم المهني لا تزال الاستجابات تدور في نفس الأفق القديم.
وبدلا من أن تتطلع الطاقات الشابة والخيال الثوري لأفق أرحب، فهي لا تزال تناضل في مواجهة السلطويين الجدد من أجل ألا يتردى الوضع إلى ما هو أسوأ. من أجل ألا يتردى الدستور إلى ما هو أسوأ من دستور 1971ومن أجل ألا يتم العصف بعمال المترو الذين نفذوا الإضراب، الأسبوع الماضي، بدلا من المضي قدما في ترسيخ الحريات النقابية وخوض جدل أوسع حول الحقوق العمالية.
لدى وزير النقل المستقيل الآن وقت كافٍ لكي يفكر مرة أخرى في مطالب عمال مترو الأنفاق بدلا من خطته المشتركة مع الشرطة التي أعلن عنها لاستباق محاولات الإضراب القادمة. ربما يفكر الآن ويفكر رئيسه ورئيسهما في أن العودة لحلول نظام مبارك الاقتصادية والأمنية لم تكن رغبات شيطانية مدنسة يتمرغ أصحابها في الدم ويحبون رؤية المصريين يتعذبون. ولكنها كانت حلولا إصلاحية تحاول الحفاظ على الاستقرار، ربما بكل صدق وإخلاص وفي نفس الوقت بكل صلف واستبداد.
ربما يفكر وزير النقل ومن قبلوا استقالته ومعه وزير النقل الجديد أن بعض مطالب عمال المترو التي نجحوا في فرضها على الرأي العام هي صورة من مطالب عمال آخرين في كل مكان. ربما يفكر لماذا كانت مطالبهم عصية التحقيق، ربما لأن مطالبهم تأمل في «ثورة» لم تصل للسياسات الحاكمة، وربما لأن «هيبة رأس هرم السلطة» ما زالت تحكم فلا يصح أن تأتي «مطالبات من أسفل الهرم» لتطلب إقالة قيادات وتغيير سياسات.  وربما يفكر هو ومن قبلوا استقالته أنه لنفس السبب يقيد مشروع «دستور الثورة» الحريات النقابية بالقانون الذي يشارك في إعداده وزير القوى العاملة، بشكل يراه نقابيون ذبحًا للحركة النقابية والعمالية الصاعدة، بينما يفترض أن تكون الحرية النقابية هي الساحة التي ستعبر فعلاً عن مطالبات الناس من قاعدة هرم السلطة.
هذه المطالبات حتى الآن لا تجد ردًا سوى الصبر والشغل وانتظار ثمار النهضة. النهضة التي لا تجيب على التساؤلات بخصوص النسبة بين  أجر وزير النقل وأجر السائق وعامل المزلقان، وعن النسبة بين تكاليف تأمين مزلقان يؤدي بعض الإهمال فيه إزهاق أرواح ملايين البشر وبين ملايين تأمين حركة الرئيس وباقي سلسلة الشخصيات المهمة.
 تلك النسبة هي هيكل هرم الظلم والتسلط الاجتماعي الذي يقف وراء الهرم المقلوب للبؤس الاجتماعي، الذي لا تحاول نهضة رجال النظام الجديد إلا ترميمه، ولكنه يحتاج لثورة تستمر حتى ينقلب رأسًا على عقب.

10 November 2012

12 مناورة سلفية بين الشريعة والديمقراطية

- قال لي: لقد كنا– نحن الإسلاميين– في الميدان حتى إسقاط مبارك، ولكن لم نرفع مطالب «الهوية الإسلامية» و«تطبيق الشريعة»، لأنها ستفرق الميدان وستؤدي للفرقة والاختلاف وضياع الهدف المشترك. قلت له: نحن الآن نريد بناء التوافق من أجل إنجاز دستور يعبر عن كل المصريين، ولكنك تصر على أن  تضع فيه ما رفضت التصريح به سابقًا وقلت إنه يسبب الفرقة والاختلاف وضياع الهدف المشترك، ثم تتهم الآخرين بالتسبب في ذلك!
2- قال لي: إن هذه اللحظة مختلفة، لأنها لحظة بناء، والبناء يجب أن يتم وفق «الصواب» وليس وفق أي «توافق» والسلام، و«الصواب» هو «تطبيق الشريعة» الذي هو ضرورة في اعتقاد «الأغلبية المسلمة». قلت له: إنني محسوب ضمن تلك الأغلبية المسلمة التي يتحدث عنها. وضمنها أيضًا غالبية أعضاء ومؤيدو القوى السياسية التي تعارض ما يراه.
3- قال لي: إن المسلم الذي لا يريد «تطبيق الشريعة» فهو كافر أو يلزمه مراجعة عقيدته. وعندما نبهته إلى أنه يجب عليه حينها أن يخصم الكفار من نسبة الأغلبية قبل أن يتحدث عنها، قال لي: إنهم أقلية، نبهته مثلاً لنتيجة انتخابات الرئاسة وسألته إن كان يعتقد أن الذين أعطوا أصواتهم لأحمد شفيق كانوا يريدون تطبيق الشريعة الإسلامية!، بينما لم يكن للشفيق مشروع سياسي يذكر إلا التخويف من «دولة الإسلاميين»، أم يعتقد أن نسبة غير المسلمين في مصر قد قاربت على النصف!
4- قال لي: إن الحقيقة، بصراحة، أن الإسلام لا يقول بأن الصواب بالضرورة مع الأكثرية، بل الصواب ما أنزله الله على نبيه وكما فهمه سلفه الصالح، وأن الديمقراطية فعلاً مناقضة للإسلام، لأنها «يمكن» أن تأتي بما يخالف ذلك، ولكنهم– يعني الإسلاميين– قبلوا بها، لأنه يغلب على ظنهم أنها ستأتي بهم، لأن غالبية الناس يؤيدون تطبيق الشريعة. ولكن ماذا لو لم يرد غالبية الناس؟، قال إن الديمقراطية هنا تكون وسيلة غير فعالة لتطبيق شرع الله.
5- قال لي: إن الديمقراطية أيضًا ضد الإسلام، لأنها تجعل «الصواب» الذي يؤسس القانون شيئًا نسبيًا، يحدده نواب البرلمان بنقاشهم وتصويتهم، ولكن الحمد لله أن غالبية هؤلاء من الإسلاميين. وعندما سألته: «وإن حدث غير ذلك». قال لي: مرة أخرى إن الديمقراطية هنا ستكون وسيلة غير فعالة لتطبيق شرع الله. سألته: «وما العمل؟». قال: «نبحث عن طريقة غيرها أو نعود إلى مساجدنا».
6- ثم استدرك قائلاً لي: أنت تراوغ لتهرب من الوضع الحالي، إن هناك أكثرية تريد تطبيق شرع الله والأقلية ترفض. هل هذه هي الديمقراطية؟، قلت له: أنت قلت إن الديمقراطية تشرع القوانين في البرلمان بعد نقاش وتصويت، ولذلك يمكن للنواب أن يقترحوا من القوانين ما يشاءون من أي مصدر وتصدر بعد نقاش وتصويت. ومحاولات تقييد ذلك باسم «الشريعة» أو أي شيء آخر هي تقييد للديمقراطية.
7- قال لي: إذن أنت لا تمانع من تطبيق قانون مستمد من «الشريعة الإسلامية». قلت له: لا ولكن بشرط ألا ينتهك أصل الحرية والمساواة بين الناس الذي هو أساس اجتماعهم في جمهورية ديمقراطية، وأن يخضع للنقاش إن كان يحقق مصالح الناس كما يعبرون عنها. قال لي: أنت إذن مثلي ترفض الديمقراطية عندما لا تكون على مزاجك!، قلت له: إن مثال ذلك عندما نجتمع في مكان ونقرر أننا جميعًا أصحاب هذا المكان ولا واحد منا له حق أكثر من الآخر ولكل واحد حريته فيما يمكن أن نتنوع فيه وسنقرر شؤوننا «الجماعية» فيه بالنقاش، ثم برأي الأغلبية بعد نقاش، فاقترح البعض التصويت على طرد أحدنا، لأنه يقوم بشيء لا يضر الآخرين ولا يمسهم، ولكنه لا يعجبهم، وحدث فعلاً. هل يصح؟
فأخذ يفكر
8– قال لي: ولو فعلوا وأرادوا طرده فعلاً! قلت: لذلك هناك دستور أو اتفاق أول يقيد الاتفاقات الجزئية بالأصل في ضمان الحرية والمساواة بين الناس. قال لي: ولو أن أغلبهم رفضوا كتابة الدستور والاتفاق بهذه الطريقة، لأنهم يبيتون النية في طرده مسبقًا، ولأنهم يؤمنون بصواب مطلق فوق الحق في الحرية والمساوة؟، قلت له: لا ضمانة للديمقراطية إلا اتفاق الناس عليها، وغير ذلك تسلط القوي ومقاومة الأضعف الذي انتهكت حريته وانتهك حقه في المساواة.
9– قال لي: أنت في الواقع تقيد رغبتي ورغبة قطاع كبير من الناس في تحكيم شريعتهم وما يرونه صوابًا. قلت له: وفق ما سبق من كلامنا، فأنت يمكنك أن تحيا وفق ما تراه شريعتك كما تحب، وأن تستلهم منها ما تشاء من أفكار للسياسة والإدارة والقانون، وهو الحاصل بالفعل. أما الجزء الذي أرفضه من رغبتك هو ما يقيدني ويحرمني من حرية لا تضرك بشكل مباشر، لأنك تعتقد أنها مخالفة للصواب الذي تعتقده. قال لي: ديني يأمرني بهذا التقييد، وأنت تقيّد التزامي بديني. قلت له: هل تقصد أن تقول أنني أقيد حريتك في التحكم في أفعالي وفق ما تعتقد أنه صواب!، قال: نعم.
 فقلت له قولاً بذيئًا!
10– قال لي: ولكني لا أعرف كيف تعترض على «الشريعة». ماذا رأيتم من الله كي تكرهوا شريعته؟
قلت له: اعتقادك أن أفكارك هي صورة «بالكربون» من نص وحي تعتقد يقينًا أنه من عند الله، ولذلك فهو الصواب والحق والحقيقة، اعتقاد لا أتفق معه ولا يلزمني. ربما أختلف مع علاقة أفكارك بالنص أو في الإيمان أصلاً بهذا النص أو في الإيمان بالله أو في الإيمان أصلاً. فالاتفاق بيننا أن حرية العقيدة مطلقة ومصونة، وإن مارست ذلك لا يجعلني ذلك خارج التشارك الديمقراطي بين أفراد يبحثون في كون التشريعات والسياسات محققة لمصلحة الناس التي يعبرون عنها وفي دفع العدوان عنهم مع ضمان حقوقهم الأساسية.
11- قال لي: تلك الضمانات التي تلصقها في نهاية كل جملة تجعلك مثلي ترفض الديمقراطية إن قامت على أسس غير الحرية والمساواة، وأنا أرفض الديمقراطية إن لم تكن وسيلة لتطبيق شرع الله. ولذلك لن نلتقي أبدًا. قلت له: كيف نلتقي طالما كنت متمسكًا بحريتي وبحقي في المساواة وأنت متمسك برغبتك في تقييدها؟
12- قال لي: إذن فهو الصراع. يحتاج الحق أحيانًا للقوة لكي تمهد له. لم نكن لنكون مسلمين لولا فتح مصر بالقوة. قلت: لقد جرت مياه كثيرة تحت النهر منذ كانت مصر جزءًا من الخلافة حتى أصبحت جمهورية ديمقراطية، ثم تحاول الآن أن تبدأ عهدًا جديدًا بعد ثورة جعلت مصدر الشرعية للنظام السياسي هو الجموع الشعبية التي لم ترفع لا هوية ولا شريعة. قال لي: أخبرتك سابقًا لم نكن نريد الصراع!، قلت له: ها أنت تريده الآن وكأنك تريد إعادة «فتح مصر» لتبني بالقوة ما تراه «صوابًا» بعيدًا عن التشارك الديمقراطي. قال: هكذا كانت دولة الخلافة، وهذا جائز شرعًا. قلت: وتسألني ماذا رأيت لأرفض تطبيق «شريعتك»؟!

04 November 2012

قصة «استغلال» الأزهر في القانون والدستور

(1)
في مايو الماضي تقدم حزب النور بمشروع  لتعديل بعض أحكام قانون تنظيم الأزهر. وكان من ضمن التعديلات المقترحة في المشروع المقدم من النائب علي قطامش، عضو حزب النور، حذف المادة التي تتحدث عن «مرجعية الأزهر» ونصها: «ويمثل الأزهر المرجع النهائي في كل ما يتعلق بشؤون الإسلام وعلومه وتراثه واجتهاداته الفقهية والفكرية الحديثة».
بعدها بشهور مع بدء أعمال اللجنة التأسيسية لإعداد مشروع الدستور دافع ممثلو حزب النور بقوة عن النص على «مرجعية الأزهر الملزمة» في تفسير مبادئ الشريعة كأحد مصادر التشريع.
قانون تنظيم الأزهر الحالي صدر بمرسوم في يناير 2012 من قبل المجلس العسكري قبل أيام من انعقاد البرلمان وتسلمه السلطة التشريعية وهو المشروع الذي أضيف  فيه تعبير «المرجع النهائي».
(2)
فور إصدار المجلس العسكري لتعديلات قانون تنظيم الأزهر، اعترضت جماعة الإخوان على لسان نائب المرشد، خيرت الشاطر، واعترض نواب الحرية والعدالة في البرلمان فور انعقاده على التحايل على سلطة التشريع من قبل المجلس العسكري ونددوا بقانون تنظيم الأزهر الجديد الذي رأوه لا يحقق استقلالا حقيقيا للأزهر، ويعطي سلطة تشكيل هيئة كبار العلماء لشيخ الأزهر الحالي أحمد الطيب منفردا، وهي الهيئة التي ستختار شيخ الأزهر القادم في حالة خلو المنصب وهي التي ستمثل الهيئة العلمية الأعلى في الأزهر.
ولكن الرئيس محمد مرسي أقر اختيارات الشيخ أحمد الطيب لأول تشكيل لهيئة كبار العلماء بالأزهر وفق القانون الجديد الذي أصدره المجلس العسكري قبل تسليم السلطة، وصدر التشكيل بقرار من رئيس الجمهورية في الجريدة الرسمية.
(3)
في يونيو 2011 اجتمع عدد من «المثقفين» مع عدد من علماء الأزهر وصدرت «وثيقة الأزهر حول مستقبل مصر» والتي نصت على «اعتبار الأزهر الشريف هو الجهة المختصَّة التي يُرجَعُ إليها في شؤون الإسلام وعلومه وتراثه واجتهاداته الفقهيَّة والفكريَّة الحديثة».
ولكن عددا من هؤلاء المثقفين المذكورة أسماؤهم في ذيل الوثيقة يعارضون الآن النص الدستوري على «مرجعية الأزهر» في تفسير مبادئ الشريعة.
كيف يمكن تفسير هذه المشاهد وتحولات المواقف بشأن الأزهر؟
المجلس العسكري، تماما مثلما كان يفكر مبارك اعتبر مكانة الأزهر «أداة» جيدة لمواجهة صعود الإخوان والسلفيين، ولذلك كان التعاون بين المجلس العسكري ونخبة الأزهر لإصدار قانون لتنظيم الأزهر قبل انتقال السلطة التشريعية إلى البرلمان ولقطع الطريق على الإسلاميين قبل أن يشاركوا في صياغة قانون جديد لتنظيم الأزهر يحقق مصالحهم، وللنص على مرجعية الأزهر النهائية بشكل أوضح من القانون السابق لمحاولة كبح مشروعات قوانين تقدم باسم تطبيق الشريعة برؤى تخالف رأي الأزهر.
اعتبر الإسلاميون وبالأخص السلفيون وحزب النور أن ذلك تقييد لسلطتهم التشريعية في البرلمان، ولذلك كان مشروع حزب النور لتعديل قانون الأزهر محاولة لإزالة «عقبة» مرجعية الأزهر من أمام سلطتهم.
بعض المثقفين ورموز التيارات المدنية، الذين وقّعوا على وثيقة الأزهر حول مستقبل مصر ثم اعتبروا الأزهر مركزا جيدا للتوافق حتى الوصول لوثيقة الأزهر حول الحريات وارتضوا كونه «الجهة المختصة التي يرجع إليها»، كانوا يحاولون أيضا استخدام الأزهر كـ«أداة» تخصم من رصيد النفوذ الديني للتيارات الإسلامية  مع قرب الانتخابات البرلمانية.
وأثناء إعداد مشروع الدستور وبعدما بدت عوائق كثيرة أمام سلطة الإسلاميين في التشريع مثل المحكمة الدستورية العليا، يريد الإسلاميون والسلفيون بقوة أكبر النص على الأزهر كمرجعية – عارضوها سابقا – من أجل استعادة مكانة الأزهر كـ«أداة» تخصم من رصيد نفوذ المحكمة الدستورية في تفسير مبادئ الشريعة.
أي استقلال؟
يبدو واضحا في العرض السابق مشروعات «استغلال الأزهر» كأداة أو مهاجمته كعقبة، بينما لا يظهر إلا في الهامش الأصوات القليلة التي عارضت ذلك الاستغلال من البداية انحيازا للديمقراطية ضد مرجعيات ملزمة فوقها ثم انحيازا لاستقلال الأزهر وحق الأزهريين في صياغة وتحديد مشروع استقلالهم بعيدا عن صراعات التيارات السياسية المختلفة وبعيدا عن رغبات السلطتين التشريعية أو التنفيذية.
وبعيدا عن وثيقة الأزهر ومحاولة الأزهر التقدم بالتعاون مع قوى للعب دور سياسي فإن قانون الأزهر هو العقدة الأكبر أمام استقلال حقيقي للأزهر.
وتحديدا اعتبار الأزهر مؤسسة من مؤسسات الدولة يصدر بتنظيم شؤونها الداخلية واختيار قيادتها قانون من البرلمان وتصديقات من الرئاسة، وبذلك يعد الأزهر أقل استقلالا من أي جمعية يقوم أعضاؤها بحرية بصياغة لوائحهم الداخلية وطرق اختيارات القيادات والمسؤولين.
ولذلك فإن الإصرار على إضافة مادة دستورية تخص الأزهر في الدستور من حيث الأصل يكرس وضعه كهيئة تابعة للدولة رغم النص على استقلاله.
 فالنص بحسب المسودة الأخيرة للدستور يقول إن القانون - الذي يضعه البرلمان -  ينظم طريقة انتخاب شيخ الأزهر، وشيخ الأزهر وفق قانون الأزهر يقترح أسماء أعضاء لهيئة كبار العلماء ويعرضها على  رئيس الجمهورية، الذي يصدر قرارا بضمهم، وبذلك لا يزال للسلطتان التنفيذية والتشريعية مداخل إلى طريقة انتخاب شيخ الأزهر واختيار هيئة كبار العلماء بل والموافقة على أسمائهم تفصيلا، وهي  الهيئة التي «يؤخذ رأيها فيما يخص الشريعة الإسلامية»، بحسب نص الدستور، وهو ما يعني أن الأزهر سيظل في قلب مشروعات التدخل والاستغلال وسط الصراع والاستقطاب المحتدم حول دور الشريعة.
استقلال الأزهر الحقيقي يبدأ من استقلاله فعلا عن الدولة المصرية بعيدا عن أي تدخل لسلطات الدولة والتيارات السياسية جميعا بنصوص دستورية أو مشروعات قوانين، وأن يكون لعلمائه وأبنائه جميعا حرية  صياغة مشروع لاستقلالهم يتضمن لوائحهم الداخلية واختيار قياداتهم وهيئاتهم العليا وشيخ الأزهر، وإلا فإن مشروعات «الاستغلال» مستمرة


02 November 2012

قدمت لك "اقتراحي" وليس "عقيدتي" .. إن لم يعجبك قدّم لي "اقتراحك" لا "عقيدتك"

رسم: مخلوف 


الصديق العزيز محمد إلهامي
يمكن للمثال الوحيد الذي ختمت به مقالك أن يكون  نموذجا نجرب فيه اقتراحي بما أنك ذكرته باهتمام. لو وقفت معي أمام المرآة واتفقنا على أن نتعايش وفق مبدأ أساسي وهو حرية كل منا غير وتساوينا في الحقوق . فإن مثالك سيكون الرد عليه ببساطة -وفق أفكار الجميلة - هو أنني من يرى رأيي في ضرورة المساواة في الميراث -مثلا - يمكنه أن يوصي بذلك، وأنت ومن يرى رأيك في تقسيم مخصوص وفق الشرع أن يكون له ذلك.

صعبة؟
البديل هو أن أفرض رأيي عليك باعتباره صوابا وفق رأي أو عقيدتي أو تقوم أنت بالعكس بفرض رأيك الذي تعتقد صوبه وفق عقيدتك. ولكن الاقتراح البسيط الذي اقترحته عليك ليس هنا رأيي في مسألة قانون الميراث بل هو اقتراح لإدارة الخلاف والاجتماع وليس تعبيرا عن اقتراحي بما أريد أن أراه في المجتمع والسياسة.
وذلك قد يوضح لماذا أحاول أن أتحدث في نطاق تجارب التفكير في مساحة الحريات والحقوق التي يمكن أن تكون عابرة للمشاريع السياسية والثقافية المحددة ولكنك اعتبرت ذلك "أفكاري" واعتبرت مواثيق حقوق الإنسان "عقيدتي". بينما سميتها أنا اقتراحا.

هذا ما حاولت أن أقترحه عليك ليكون بداية حوار ربما يمتد لمسائل أعقد وأكثر تشابكا. ولكنك فضلت إنهاء الحوار متمسكا بـ"سلطة الأغلبية" الجانب الوحيد الذي تذكره من الديمقراطية.
ولكني أود أن أقول أن الديمقراطية ببساطة وتاريخ فكرة الانتخاب كوسيلة لاتخاذ القرارات وترجيح التشريع مستندة بالأساس لمباديء من نوع أن الأفراد أحرار وأسياد وليسوا تابعين ولا يحتاجون لوصاية مرجعية او تقييم رأيهم وفق فكرة عليا. فلكل واحد منهم صوت بغض النظر عن تعليمه وثقافته ومرجعيته ودينه ومذهبه (فكرة المساواة) وهم أحرار في التعبير عن هذا الرأي مهما كان والديمقراطية باعتبارها حكم الشعب تقوم على نقاش وجدل بين كل الشعب وان يكون القرار أولا لا ينتهك تلك المساواة ولا تلك الحرية وأن يكون معبرا بأكبر قدر عن مصالحهم جميعا فلا يهمل أحدها. والتقاليد الديمقراطية تبدأ من المساواة بين الإفراد، لا سلطة فوق الناس، حرية التعبير والتنظيم والمساءلة والنقد وتكوين الهيئات والتواصل بين المسئولين والناس. وتقاليدها تحاول بالأساس تفتيت السلطة  لا تركيز السلطة. وأنت لا تتحدث هنا إلا إلى الاحتكام إلى الأغلبية بشكل مطلق لا في اتخاذ القرارات وانتخاب الممثلين بل في إقرار الحقوق والحريات. فتجعل وسيلة من وسائل اتخاذ القرار فوق الفلسفة والمباديء الأساسية لفكرة الديمقراطية. حسنا

ولذلك وصفي لسعيك بأنه ٍ"سلطوية إسلامية سلفية" هو تحليل وتصنيف ربما لا تتبناه أنت، كما تصفني أنت ب"العلماني" بينما لا أذكر تلك الكلمة عن نفسي ولا أستخدمها. ولكن كما تعلم "لا مشاحة في الاصطلاح" إن حددنا معناه. لذلك أرجو ألا تعتبر ذلك إهانة ما 

وما ختمت به المقال من أنني أعتقد أن تقييد الحريات والحقوق هو خيانة للثورة وسرقة ليس مجاله الحديث   المكرر عمن كان في الميدان ومن أصيب في محمد محمود. فأنا أعتبر فعلا أن من شاركني الثورة ويريد تقييدي وتقييد حرية غيري وفرصنا في المساوة الآن لأنه ينتمي – في تقديره- لأغلبية تفكر بطريقة معينة وتعيش بطريقة معينة وأنا أنتمي – فرضا – لأقلية تفكر بطريقة مختلفة عن السائد أو عن تاريخ هذا المجتمع وتقاليده. بالتأكيد هو يسرق جهود ونضال كل المختلفين معه ليقيدهم وفي الحقيقة يضع نفسه مكان سلطة مبارك ولكن باسم الهوية الإسلامية.

اقتراحي الأساسي هو أنه يمكنك أن تحيا وفق الهوية الإسلامية كما تراها ويمكن لغيرك أن يعيش وفق مفاهيم أخرى لها كثيرة  وموجودة ويمكن لآخرين العيش وفق طرق أخرى لا يجب أن تحبها أو تقبلها أنت ولا الأغلبية. أنت تقول أنك تكره "الدولة الحديثة" لأنها تمارس تنميط الناس ولكنك تريد – في مقالك الأول - “دولة ذات رسالة وهوية"! وفي الواقع أنت تكره نوعا ما من التنميط أو تكره رسالة وهوية محددة ولكن دعوتك لأن تقرر الأغلبية هوية ورسالة الدولة وتقيد حقوق وحريات كل الآخرين هو دعوة لدولة حديثة تمارس التنميط وفق هوى الأغلبية! 

 تيارات اليسار – التحررية لا السلطوية، هناك يسار سلطوي فعلا أنا ضده بنفس القدر – يحفل تراثها الفكري  بنقد لفكرة الدولة الحديثة وفعل التنميط، وهناك تراث ونظريات تحررية ليبرالية ويسارية تنتقد هيمنة الدولة الحديثة على تفاصيل الحياة والثقافة وتنوعات المجتمع حتى "البدائي منها" – من وجهة نظر الرأسمالية وعشاق التقدم – ولكني لا أرى في رأيك إلا تكريسا لفكرة الدولة الحديثة التي تستخدم أدوات الديمقراطية لتكريس سلطات وقوى مثل ثقافة الأغلبية وهيمنة رأس المال أو التيار السياسي السائد. وكل ما سبق يمكن أن يلبس ثوبا إسلاميا، وهو ماة يحدث حاليا بقدر ما.

التاريخ فعلا يحفل بالصراعات والعنف بالتأكيد، لكنك يمكنك أن ترى أن هذه الصراعات بين الرغبات السلطوية المختلفة أو بين رغبات سلطوية ورغبات تحرر تمثلت في المقاومة وفي الثورات والانتفاضات والاحتجاجات، وأشكال المقاومة هذه التي تحاول أن تقلب الآية لتكون رغبة متسلطة مقابلة تطرح بدلا من استمرار الحرب أفكارا لقبول التنوع والحرية والمساواة بدلاا من السعي للتنميط والهيمنة والتقييد والتمييز. ولذلك فإن الدساتير كمطالب للشعوب هي بالأساس تلك النظرة المثالية لما يريده الناس من حريات وحقوق لأجل أن يعيشوا معا. ولذلك فإنهم عند كتابة الدساتير يقفون معا أمام المرآة ليكتبوا نصوصا من نوع: "كل المواطنين سواء أمام القانون”. ولكي يتحقق هذا عمليا أمامه قرون لأن هناك دائما اختراقات لذلك وسعي البشر من أجل المساواة هو سعي من أجل الضمانات وسد لثغرات التسط والتمييز. ولذلك فليس من المجدي تذكيرهم أن التمييز موجود هناك على الأرض لأنهم يعرفونه بالتأكيد ولولا ذلك ما حاولوا السعي للمساواة. ولكن الأجدى من ذلك أن تقبل النظر معهم في المرآة لتفكر معهم في القيم والمباديء التي يمكن أن تؤسس لهذه المساواة. 
ولكن إن كنت تفضل خوض المعركة بنفس المنطق ليرتهنك منطق العدوان الذي يتسلط عليك بمحاولة قلب الآية والبدء في أول خطوات السعي لسلطويتك المفضلة المسماة بالخلافة الإسلامية في مواجهة الرافضين لها. لتؤسس العدل كما تراه رغم  قبولهم ورضاهم. فلا يلزمك إلا أن تقف وحدك في المرآة لتقول: "أنا على الصواب وهم على خطأ، لا تعايش بيننا إلا وفق ما أراه صحيحا وملزما لهم”.
ماذا تنتظر مني ساعتها إذن يا صديقي؟  
قدمت لك "اقتراحي" وليس "عقيدتي" وإن لم يعجبك فقدم لي "اقتراحك" لا "عقيدتك".
والحوار موصول أن أردت.