22 December 2010

شيء ما حدث لي


,,
ذات مساء من أكثر من عشرين سنة، كان جياكومتي، النحات والمصوّر السويسري، يعبر ميدانا فصدمته سيارة وأصيب بجرح والتوت ساقه. وفي الإغماءة اليقظة التي راح فيها شعر أولا بنوع من البهجة: "أخيرا شيء ما حدث لي!".

إني أعرف راديكاليته، فقد كان ينتظر الأسوأ، إن هذه الحياة التي يحبها إلى الدرجة التي لم يكن يتمنى معها حياة أخرى، كانت حياة مقلوبة، وربما محطمة بحماقة عنف الصدفة. وكان يقول لنفسه: "لم أوجد إذا لأنحت، ولا حتى لأعيش، لم أوجد لشيء".
إن ما كان يحمسه هو نظام السببية المهدد عندما يُرفع عنه القناع فجأة، ويُحرق في أضواء المدينة وفي الناس وفي جسمه هو نفسه وقد تلطخ بالوحل بتلك النظرة المحجرة ككوارث الطبيعة.
إني أعجب بهذه الإرادة التي تقبل كل شيء. وإن كنا نحب المفاجآت فينبغي أن نحبها حتى ذلك الحد، حتى ومضاتها النادرة التي تكشف للهواة أن الأرض لم تخلق لهم.

في مقتبل عمري كنت أدعي أني لا أحب غير المفاجآت. كان على كل خيط من نسيج حياتي أن يكون غير متوقع وأن تنبعث منه رائحة الطلاء الجديد. كنت أقبل مقدما الظروف الطارئة والحوادث المزعجة، ولكي أكون عادلا يجب أن أقول أني كنت أقبلها قبولا حسنا.
وذات مساء انطفأت الكهرباء بسبب عطل، وناداني أحدهم من غرفة أخرى، وتقدمت مندفعا فاصطدم رأسي بمصراع الباب، وكانت الصدمة قوية بحيث كسرت لي سنا من أسناني. شعرت بنوع من المرح وضحكت له رغم الألم، كما سوف يضحك جياكومتي بعد ذلك بسبب ما حدث لساقه.
الأمر أنني كنت قد قررت مسبقا أن تكون لقصتي نهاية سعيدة، فرأيت في هذه السن المكسورة علامة، تنبيها غامضا سوف أفهمه فيما بعد.
ربما فقدت ذراعا أو ساقا أو عيني. ولكن لأن كل شيء يتوقف على الأسلوب فإن مصائبي لن تكون أبدا سوى محن، سوى وسائل لعمل كتاب. تعلمت أن أتقبل الأحزان، ورأيت فيها بواكير "موتي الانتصاري" والدرجات التي ينحتها ليرفعني إليها.
إن هذه العناية الفظة قليلا لم أكن أستقبحها، وكنت مهتما بأن أظهر جديرا بها. كنت أعتبر الأسوأ شرط الأفضل. إن أخطائي نفسها كانت تفيد، وهذا يعني أني لم أكن أقترف أخطاء. سوف أكسب الحرب من كثرة خسارة المعارك.

لقد أهملت الوقاية ونسيت أن أرتدي معطفي وكوفيتي. أفضل دائما أن أتهم نفسي على أن أتهم العالم، لا عن سلامة قلب، ولكن لكي لا أكون متعلقا إلا بنفسي. إن هذا التكبر لم يكن يمنع التواضع، وكنت أعتقد طوعا بأني كنت عرضة للخطأ بقدر ما كان ضعفي أقصر طريق طبيعي إلى "الخير". وكنت أرتب أمري لأشعر في حركة حياتي بجاذبية لا تقاوم كانت لا تنقطع في إجباري، حتى على الرغم مني، على تحقيق تقدم جديد.

كثيرا ما كان يقال لي: إن الماضي يدفعنا. ولكني كنت واثقا أن المستقبل يشدني. لقد دسست في نفسي "تقدم البرجوازيين" المتصل، وجعلت منه محركا ذا اشتعال داخلي، وهبطت بقيمة الماضي أمام الحاضر، والحاضر أمام المستقبل. وحولت التطورية الهادئة إلى نوبات ثورية متقطعة.

لقد أسات التصرف أمس. لانه كان أمس. وأحس اليوم الحكم القاسي الذي سوف أصدره على نفسي غدا. إني أمنع نفسي من الاقتراب من ماضيّ. المراهقة والسن الناضجة وحتى السنة التي مضت للتو، كل ذلك سوف يكون دائما العهد القديم. الجديد يبدأ في الساعة الحاضرة، ولكنه ليس مشيّدا على الإطلاق، إنه سيهدم غدا مجانا ... وقد أوتيت حماقة الافتتان بذلك.

أعترف في بشاشة وتواضع ماكر: أنا موهوب للنقد الذاتي. وأتلذذ بصفاء بصيرتي. منذ بداية عمري "أدركت" حقا كل شيء من غير معرفة ولا كلمات، ربما بشكل أعمى. موتي هو سبب ولادتي، وولادتي تقذفني نحو موتي. مشدود حتى التمزق بين هذين الطرفين. أموت وأحيا عند كل خفقة قلب. أصبحت آخرتي مستقبلي: كان ذلك يضرب كل لحظة بالعبث، مهما كان مضمونها. وكان ذلك في عمق مركز انتباهي، وشرودي الأعمق، وتسليتي الأشد عمقا. كان ذلك في فراغ كل امتلاء وفي الوهمية الخفيفة لكل واقع.

يكاد ذلك يقتل أحيانا طعم الحلوى في فمي، والأحزان والأفراح في قلبي. ولكن ذلك كان أيضا ينقذ أتفه اللحظات، فاللحظة في النهاية تأتي وتدفعني قدما. لقد أعطتني آخرتي الصبر على الحياة، فانتظرت.
في كل دقيقة كنت أنتظر الدقيقة المقبلة لأنها كانت تشد إليها الدقيقة التي تليها. عشت هانئا في العجلة المتناهية، وطورت عادتي "السيئة": أن أحاول الاسترخاء بينما أيامي ترتجف. متقدما دائما على نفسي، كان كل شيء يستغرقني، ولكن لا شيء يوقفني. يا له من عزاء!
،،
سارتر
"الكلمات"
نص مزيج من ترجمتي سهيل إدريس عن دار "الآداب" وخليل صابات عن دار "شرقيات" مع تصرف وتعديلات وإعادة ترتيب مني، بناء على معرفتي الشخصية الأوثق بسارتر وبإذن خاص منه في مقابلة تمت مساء أمس في مقهاي المفضل في الكيت كات.
قلت له أني أتمنى دراسة الفرنسية لأعيد ترجمة "الكلمات" مرة أخرى. فابتسم وعاتبني أولا على الاهتمام برفيقه اللدود ميرلو-بونتي السنة الماضية وهنأني - جادا وساخرا- بذكرى ميلادي، ثم قال لي: "أعد ترتيب كلماتي كما تشاء، نحن متفاهمان بالكامل رغم حواجز اللغة والترجمة. متفاهمان أنه لا يجب الجزع أبدا من سوء التفاهم، لأن هذا ما لدينا دائما، فقط نكتشفه عندما تختلف خططنا".