19 May 2010

ما نعود إليه


بلا تردد فكرت في عم علي عندما طلب مني صديقي السكندري أن أساعده في البحث عن شقة في أرض الجمعية. قبل أربع سنوات وبعد بحث مضن في كافة أنحاء القاهرة أتاني عم علي بالشقة التي ناسبتني تماما ولا تزال. سألت أبي عن عم علي السمسار فأعطاني رقمه وقال أنه بواب العمارة التي يسكن فيها صديقه اللواء.
لا زلت أذكر لواء أمن الدولة الدمث الهاديء وشقته الواسعة وزوجته اللطيفة وابنته الذكية ذات العينين لامعتي السواد والابن ذا الشعر الفاتح. رقم عم علي خارج الخدمة. مررت على العمارة قبيل منتصف الليل، وأنا أقترب حاولت أن أخمن في أي طابق كانت شقة اللواء، ربما كانت في الدور الأول حيث توجد البلوزة الزهرية التي ربما تخص البنت والفستان الرمادي الذي يناسب الأم. دخلت إلى حوش المنزل وكان باب حجرة البواب مفتوحا وعندما اقتربت رأتني المرأة وقامت وهي تقول: "أيوه". سألتها عن عم علي فقالت وهي تعدل طرحتها وتخرج من الحجرة: "مش هنا والله". سألتها إن كان في مكان قريب فقالت وهي تشيح بوجهها وتستعد لدخول الحجرة مرة أخرى: "ولا أعرف".
لم تسمعني أشكرها فخرجت وأنا أفكر أن ردها يشي بحزن وعتاب، وتجاهلها يخفي غضب مكتوم. قد تكون غاضبة من غياب زوجها هذه الساعة وتركها وحيدة ترد على الأغراب.
وأنا خارج حاولت أن أتذكر مرة أخرى مكان شقة اللواء، فتذكرت مشهدا في شقتهم عالقا بذاكرتي. عيد ميلاد البنت أو الولد، ربما كنت في العاشرة أو أصغر قليلا، كل الأولاد وقفوا في صف واحد لكي يمثلوا "قطارا" عندما بدأت أغنية "توت توت" لعبد المنعم مدبولي. إلا أنا، لم أتحرك رغم إلحاحهم. قام معهم كهل أعتقد أنه زميل اللواء، قد يكون عميدا أو عقيدا مثله آنذاك، ويبدو أنه شعر بالإهانة من اشتراكه معهم بينما أنا جالس أتفرج. تركهم وجلس بجانبي وأصر على أن يعرف لماذا لم أقم معهم لنلعب لعبة القطار. لم أعرف كيف أرد عليه ولكني هززت كتفي وصمتت. جاءت زوجة اللواء اللطيفة وقالت له: "ما تسيبه بمزاجه"، وأعطتني قطعة جاتوه معظمها شيكولاته. ابتسمت وقلت بخجل أني لا أحب الشيكولاته وأفضل الكريمة. ضحكت وقبلتني وهي تقول: "أمرك يا سيدي!" وذهبت لتغيّرها بينما استمر الرجل السمج في مجادلتي قائلا: إنت بتحب تبقى "خالف تعرف"؟ نظرت إليه ولم أعرف حقا كيف أرد عليه ولماذا فهززت كتفي مرة أخرى وكدت أقوم لأنضم إلى القطار هربا منه.
في وقت متأخر من اليوم التالي ذهبت مرة أخرى ودخلت حوش العمارة. رأتني زوجة عم علي فقامت. سألتها عنه فقالت: "لا والله يا أستاذ مش هنا". قلت أني أريده لأني أبحث عن شقة. فقالت: "ما أعرفش والله". خرجت بنت صغيرة من الحجرة فضربتها وهي تعيدها إلى الداخل: "خشي يا بنت الكلب!" قلت لها:" طيب تليفونه معايا بس مش بيرد". ردت: "أنا ولا أعرف تليفونه خالص!" شكرتها ومشيت. وفكرت أنها غاضبة منه جدا، ربما يكون قد تزوج بأخرى أو يخونها أو يضربها أو بينهما خلاف كبير يدعوه لهجرها بهذا الشكل.
وأنا خارج كانت فتاة طويلة شقراء تدخل العمارة وهي تضع مفاتيح سيارتها في حقيبتها. لا تبدو شبيهة بالبنت التي أعتقد أنها كانت قصيرة وشعرها فاحم السواد. تذكرت أنها كانت متفوقة وأنها حصلت على منحة لدراسة الاقتصاد بالجامعة الأمريكية وأن أخاها دخل كلية الهندسة، ربما كان اسمه أحمد أو محمد ولكن كنا نقول له ميشو. وظل هو لفترة طويلة يقول لكل من يناديه بذلك: "أنا مش ميشو. أحمد لو سمحت". أو محمد، لا أذكر. أذكر مشاهد ضعيفة الإضاءة في حديقة شاليه في الإسماعيلية، أذكر جيدا الضحكة الصاخبة للبنت، وصورة لي مع أبي أظنها من هذه الإجازة، يجلس هو على كرسي ويضع رجلا على رجل وأنا أستند إلى كرسيه وكأني أضع رجلا لى رجل وأنا واقف.
ذهبت إلى بيت أبي وسألته إن كان معه رقم آخر لعم علي وسألته عن أخبار أسرة اللواء. لم يكن هناك رقم آخر وبدأ يحكي لي أن البنت تخرجت وتعمل في بنك في دبي وأن ميشو - هكذا قال - يعمل مهندسا ولا يزال يسكن مع أبيه اللواء الذي تقاعد في مدينة نصر بعد أن تركوا شقة أرض الجمعية. ثم أضاف أني بالتأكيد أذكر إصابة الزوجة بالسرطان ووفاتها بسرعة، وأن ذلك حدث من فترة طويلة.
تذكرت أني زرت زوجته وهي مريضة مرة مع أمي، ونحن عائدين بكت أمي بكاء حارا ففكرت أنها تحبها كثيرا رغم أنهما لا يتزاوران عادة، ولم أفهم إلا عند وفاتها بعد ذلك بقليل. حاولت أن أتذكر ملامح ابنتها وابنها وهما أكبر سنا فلم أجد في ذاكرتي إلا صورا طفولية. فكرت أني لم ألحظ أبدا وجود بواب في عمارتهم، ثم تذكرت أني لم أر عم علي أبدا وأن أبي هو الذي قابله وقتها وأني أتخيله يشبه نجاح الموجي.
وأنا أقترب من العمارة في اليوم التالي في وقت متأخر أيضا انقبض قلبي وكأني رأيت وجه الزوجة في شرفة. ليست هي.
وجدت المرأة تكنس الحوش. سلمت عليها فردت بود. فكرت أنها أحسن مزاجا الليلة وأن عم علي قد عاد أو انصلحت الأمور. سألتها فسألتني: "هو مش إنت اللي جيت قبل كده يا أستاذ وسألت عليه؟". أجبتها فردت: "ما أنا قلت لك إن عم علي مشي من العمارة دي من شهور. ومش عارفين راح فين. وإحنا جينا بداله".


اللوحة لهبة خليفة

06 May 2010

لأني لن أتعلم أبدا


لا أصدق أني كدت أغلق باب ثلاجة العصائر دون أن أشتري شيئا لأني لم أجد عصير برتقال بينما كنت على وشك فقدان الوعي من هبوط ضغط الدم. لا أصدق أيضا أني اندفعت في لعب الكرة ونسيت شهيتي المنقطعة تقريبا منذ ثلاثة أشهر، وأني تناولت وجبتين قليلتين فقط في اليومين السابقين.
بدا لي أدائي مبشرا أثناء الإحماء، بالنسبة لمن لم يلعب مباراة منذ أكثر من عشر سنوات تقريبا. وفي بداية اللعب كذلك، لم أكن سيئا جدا، أعتقد أن من راقبني كان يجب أن يقول أني كنت لاعبا جيدا لا يحتاج إلا بعض الوقت.
بعض الخفة والحماسة دفعاني لربع ساعة، بعدها بدأ رأسي يدوخ . طلبت من صديقي أن يحل محلي سريعا واتجهت بأقصى سرعة تسمح بها حالتي إلى طيف ثلاجة تذكرت أني رأيته وأنا خارج من غرفة خلع الملابس. في الطريق الرملي الأحمر الذي يلف الملعب كان شباب وكهول وسيدات وفتيات يهرولون وهم يتبادلون الأحاديث بينما أهرول في إعياء أتمنى أن أصل قبل أن أفقد الوعي. كنت أفكر أني ساكون مثار سخرية لو فقدت وعيي بعد ربع ساعة فقط من اللعب، وذلك بعد أن أكون مثار شفقة حتى يعثر عليّ أصدقائي بعد أن ينتهوا من المباراة.
وصلت إلى الثلاجة وأنا أتماسك بالكاد، فتحتها وبحثت عن عصير برتقال فلم أجد. لا أحب عصير التفاح ولا الجوافة ولا ذلك الكوكتيل العجيب، وكدت أغلق باب الثلاجة. بدا لي ذلك جنونيا عندما انتبهت لكوني أبحث عن عصير البرتقال بالتحديد وأعتقد أني وجهت لنفسي أو لمزاجي سبابا ما وأنا أمد يدي ألتقط أقرب علبة عصير وأفتحها وأشربها وأنا واقف أمام الباب المشرع للثلاجة. أتبعتها بواحدة أخرى وانتبهت ساعتها أنه عصير تفاح، ثم أخذت زجاجة مياه وكدت أنسى أن أدفع للرجل الذي كان ينظر لي مندهشا بلا كلام..
جلست على حافة حوض زهور إلى جانب الطريق أتأمل المارين من رواد النادي وأستعيد توازن رأسي تدريجيا. كنت بحاجة لمسند أريح إليه ظهري، فاستندت بيدي على الطين وسط زهور الحوض لأرخي ظهري قليلا ورفعت رأسي للسماء التي لا يخدش ظلمتها كل تلك الأضواء الكاشفة في الملاعب ولا حتى البدر التام تلك الليلة. تذكرت وقوفي بجانب سور هذا النادي مساء كل خميس قبل خمس سنين أنتظر الميكروباص وظهري يئن من الجلوس على كراسي الصالون الكلاسيكية في بيت أهل خطيبتي السابقة، بعد يوم طويل من العمل بظهر منتصب أمام الكمبيوتر لعشر ساعات على الأقل، ثم الرحلة المتعبة في المترو أو في تاكسي.
خفضت بصري وتأملت "الشورت" الذي يتسع الآن لحجم قبضة يد بجانب فخذي بينما كان ضيقا جدا عليّ قبل سنة في الإجازة الأخيرة وأنا أحتفل بالذكرى الثانية لزواجي الذي أصبح سابقا أيضا.
كان وعيي يعود ومعه المزيد من تفاصيل كل تلك الأشياء السابقة التي أحاول تجاوزها ولكنها تعود لتحتل أحلامي، وتجعلني أقوم من نومي كل صباح ناسيا كم قطعت من المسافة بعيدا عنها فأبدأ من أول الحزن.
تركت نفسي أحدق في شاب وفتاة يرتديان ملابس رياضية ويجلسان على الأرض في ركن الطريق ويتبادلان حديثا ضاحكا. شغلت نفسي عني بتخيل باقي القصة التي لن أعرفها أبدا. تخيلت باق طويل مبهج وتمنيته لهما وشعرت أني أفضل حالا.
قمت وقد دب فيّ نشاط وبعض العناد وسرت إلى حيث يلعب أصدقائي المشغولين عني بالمباراة الحماسية، جلست لبعض الوقت حتى أراد أحدهم أن يرتاح فقمت بدون تفكير وأخذت مكانه.
بدوت لي مرة أخرى بحالة جيدة، وانفردت بالمرمى مرتين، وقلت لنفسي أن ذلك بسبب ذاكرتي التي تحفظ جيدا إجادتي السابقة للتحرك بدون كرة أو بسبب زهد لاعبي الفريق المنافس في مراقبتي. في النهاية أضعت هدفين بغرابة تبدو لي أليفة هذه الأيام. مازحت زملاء الفريق أني سأضيعهم هذه الليلة. كنت خجلا من لطفهم الذي يكبح لومهم المتسق أكثر مع حماستهم للفوز.
بدأ التعب يتمكن مني ثانية ولكني اقتبست بعضا من حماستهم وأنا أواجه ذلك اللاعب الذي يرتدي فانلة زرقاء. بدا وكأنه سيمرر الكرة عن يساري ولكنه غير فجأة اتجاهه ومر من يميني. كنت مندفعا ففقدت توازني وحاولت قدماي تحاشي السقوط ولكن رأسي الذي دار فجأة جعلني أتعثر وأسقط على ذراعي اليمنى. تذكرت أني مررت من حارس مرمى في حوش الأورمان الثانوية في شتاء 1996 بنفس الطريقة فسقط وضحكت جدا وأنا أضع الكرة في المرمى الخالي وأعود بهدوء وكلتا يديّ في جيبيّ وأحدهم يحتضنني وهو يهتف: وجيه! اسم شهرتي بين زملاء فصل الفائقين الذي أطلقه عليّ حسين قنديل بسبب كفيّ اللذين كانتا دائما في جيبيّ، أو واحدة منهما على الأقل، أثناء الحصص.
ابتسمت وأنا مستلق على ظهري ما زلت على الأرض وعضضت على شفتي السفلي في مزيج من الخجل والسخرية من نفسي وفكرت أني فقدت مع بعض الوزن الكثير من التوازن. قمت بعد لحظات وأنا أتحسس مكان خدش خفيف في ذراعي وارتحت لتلميح أحدهم في مرح: "ضايع"، لطفهم الصامت كان مخجلا أكثر من اللازم، قلت له ضاحكا أنه لم ير شيئا بعد.
قضيت الليلة في بيت صديق انفصل لتوه عن رفيقة سنوات طوال. ولم يخجل كلانا من الترقرق المفاجيء للدموع في العيون أثناء الحوارات المرحة أوالاستعادة المقتضبة للذكريات. نمت عنده وحلمت بأني أتناول وجبة سمك في الإسكندرية مع كل الفريق، وأعتقد أن ذلك كان على حسابي كنوع من التعويض، رغم "أننا" فزنا في النهاية.
في الحمّام صباحا وقفت أمام المرآة أتأمل الخدش في ذراعي. آلمني عندما مسته المياه الساخنة. أصابني ضيق مفاجيء وقلت لنفسي ومزاجي يكاد يتعكر ويستعيد خدوشا أخرى: لحد إمتى هاتعمل في نفسك الحاجات الغربية دي!
ولكن تذكرت فجأة أن لاعبا واحدا من الفريق الآخر كان يأكل معنا في الحلم، هو اللاعب الذي يرتدي فانلة زرقاء وسقطتُ لما مر مني. انتبهت لابتسامتي في المرآة فضحكت وأنا أتأمل الخدش الأهون والحلم الأقل مراوغة، وقلت لنفسي: قلبك أبيض، تعيش وتاخد غيرها.